من العيوب التي لا تخطئها العين في الشخصية المصرية- نخبا وشعبا- هي ظاهرة التملق والتسلق والمداهنة تجاه المسؤولين في أي موقع وعلى أي مستوى.. يظهر هذا بأجلى وأوضح ما يكون في تحويل إنسان بين يوم وليلة من شخص عادى إلى شخص عبقرى، أو زعيم ملهم، أو قائد فذ غير مسبوق، أو حكيم زمانه، لمجرد أنه أصبح رئيساً أو مسؤولا، سواء كان رئيس دولة أو رئيساً لوزارة أو رئيساً لحزب أو جمعية أو حتى جماعة.. أليس ذلك عجيبا؟ والمصريون إذ يفعلون ذلك يرتكبون أربعة أخطاء رئيسة؛ أولها: إصابة المسؤول بالكبر والغطرسة والغرور، وهو ما يؤدى في النهاية إلى استبداده وفساده، ثانيها: ترك المهمة الكبرى التي يجب أن يضطلعوا بها وهى مراقبة هذا المسؤول ومحاسبته إذا أخطأ، فأى مسؤول مهما كانت عبقريته أو زعامته هو بشر يصيب ويخطئ، ثالثها: الانشغال- قصدا- بهذا السلوك الذميم عن القيام بالواجبات الأساسية التي يحتاجها المجتمع والوطن، ورابعها: الطمع في تحقيق أغراض شخصية، سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، بطرق وأساليب غير قانونية وغير مشروعة.
ويبدو أن المصريين بارعون في صناعة العباقرة أو الزعماء أو القادة الأفذاذ.. هم يقومون بهذا العمل في لحظات.. إذ عندما يتم انتخاب شخص أو اختياره، أو تعيينه في منصب مرموق، تبدأ الحكايات والروايات تنسج حوله؛ عن الظروف غير العادية التي صاحبت نشأته، والأساتذة الكبار الذين تتلمذ على أيديهم ونهل من علمهم في مراحل مختلفة من حياته، والكتاب العظام- محليين وعالميين- الذين قرأ لهم، وثقافته الموسوعية التي يتميز بها من خلال الكتب والمؤلفات الرائعة التي عكف على قراءتها، وهكذا وهكذا.
الشعوب الأخرى لا تصنع ذلك.. هي لا تعترف بعبقرية أو زعامة أحد إلا بعد أن يتأكد لها أنه حقق نجاحات في هذا المجال أو ذاك.. هي لا تعطى صكا دون مقابل أو شيكا على بياض، أو تبنى قصورا في الهواء.. إنما هي تتتبع مسيرات هؤلاء الأشخاص أثناء صعودهم وترقيهم من مرحلة إلى أخرى، ومن موقع إلى آخر، وبعد أن تلاحظ أنهم حفروا بجهودهم عبقريتهم وزعامتهم بصبر وثبات.. فإذا ما تم اختيارهم، لا تداهنهم أو تتملقهم، تعرف دورهم ودورها، لا تترك لهم فرصة الكبر والغرور، فهى تراقبهم وتحاسبهم، بل تخلعهم إذا هم تجاوزوا حدودهم في حقها..
من العيوب الأخرى في الشخصية المصرية أيضا- نخبا وشعبا- التسيب الشديد، الإهمال الجسيم، التهرب من المسؤولية عند ارتكاب أي خطأ، الأنانية والانتهازية، والفساد المتغلغل كالورم السرطانى في جميع أجزاء الجسد.. هذه العيوب ليست كفيلة فقط بإضعاف أي أمة، بل بضياعها وخروجها من التاريخ.. هي تقف عقبة كأداء أمام أي قيادة- مهما كانت قدراتها وكفاءتها- على النهوض، وما لم تكن هناك متابعة لصيقة ومحاسبة دقيقة لأى تقصير أو خطا أو خلل، كبيرا كان أو صغيرا، فلا أمل في أي تغيير.. إنه لا يمكن لهذه القيادة أن تعتمد على الدعم الذي يأتيها من الخارج طول الوقت، بينما تظل الشخصية المصرية مجرد مستهلك.. مرة أخرى نقول: إن الشعوب الأخرى مرت بظروف قاسية وضاغطة، ربما تكون أصعب من الظروف التي يمر به الشعب المصرى، لكنها مع ذلك، لم تركن ولم تستسلم، بل قبلت التحدى، ناضلت وقاومت، واستطاعت في أوقات قياسية أن تبنى نفسها.. هذا هو دور الرئيس.. أن يستحث الهمم، أن يعيد بناء ثقة الشعب بنفسه، بحيث يتحول من الهزل إلى الجد ومن الهدم إلى البناء، ومن سفاسف الأمور إلى معاليها..
وتكمن البداية الصحيحة في تغيير الشخصية المصرية بتسليط الضوء على سوءاتها وعيوبها، ومعرفة الأسباب التي أدت إليها.. وعندما يكون التشخيص دقيقا، سوف نتمكن من العلاج.. ولسنا في حاجة إلى القول إن كشف العيوب يحتاج شجاعة، وصدقا، وإخلاصا، فضلا عن الهمة والعزم وتوافر الإرادة والقدرة والكفاءة.. وإذا نجحنا في التغيير، فسوف تتحقق النهضة المنشودة.. لا أريد أن نجلد ذواتنا أو أن ننشب أظافرنا في لحمنا، بل لابد أن يكون توصيفنا موضوعيا ومحايدا ومنصفا.. سوف يأخذ العلاج وقتا وجهدا، فعيوب الشخصية المصرية هي نتيجة تراكمات عبر عقود.. صحيح أن ثورة ٢٥ يناير، أظهرت أفضل ما فيها، لكن ما إن تحقق لها مطلب واحد فقط، وهو تنحية مبارك، حتى بها تعود سيرتها الأولى.. ولأن الثورة لم تكن لها قيادة، ولا رؤية، ولا منهج، فقد سيطرت عليها القوى المنظمة والمحافظة التي لا تؤمن بالثورة أصلا.. ومن هنا وئدت الثورة.. لم تتمكن من استكمال مسيرتها نحو التغيير، أقصد تغيير الشخصية المصرية التي عادت إلى أسوأ ما لديها.. ولولا فشل الإخوان وما ارتكبوه من أخطاء قاتلة خلال العام الذي حكموا فيه، ما استعادت الشخصية المصرية- مؤقتا- حيويتها التي تفجرت في ثورة ٣٠ يونيو.. هل أقول إن من أهم نتائج ثورة ٢٥ يناير، أن الشخصية المصرية تعافت من علة الصبر والاحتمال وعدم التمرد على الاستبداد لفترات طويلة، بحيث جاءت ثورة ٣٠ يونيو بعدها بعامين ونصف فقط؟.. إنه مما لا شك فيه أن الإرهاب العاتى الذي تواجهه مصر منذ هذه الثورة- وحتى الآن- أدى إلى إرباك الكثير من الخطط والبرامج، فضلا عن ضعف إجراءات مواجهة الفساد، وهو ما جعل وهج الثورة يخبو، وجعل عيوب الشخصية المصرية تعاود الظهور مرة أخرى.. لنكن واضحين وصادقين مع أنفسنا ومع الرئيس.. لقد تراجعت شعبيته وبدأ رصيده في التآكل.. يساعد في هذا الاتجاه حالة الانفلات العام التي تجتاح المجتمع، إعلاميا، وثقافيا، وأخلاقيا.. وما لم يأخذ الرئيس حذره، فقد (أقول قد) تحدث ثورة ثالثة، تظهر أفضل ما لدينا لفترة، ثم تعود «ريمة- كما يقال- لعادتها القديمة».. نريد ثورة تستأصل شافة عيوبنا من جذورها، حتى نتمكن من النهوض لبناء مصر الجديدة، القوية والقادرة على قيادة المنطقة العربية، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وحضاريا.. إن هناك فراغا في المنطقة يسعى الآخرون لشغله.. وليكن معلوما للجميع، أنه ليس لدينا ترف الاختيار بين أن نكون أو لا نكون.. نحن يجب ولابد أن نكون.