x

عمرو الزنط دور العلم فى حرب الثلاثين عاماً العربية عمرو الزنط الجمعة 24-07-2015 21:08


من المقرر فى بداية الشهر المقبل افتتاح المجرى الثانى لقناة السويس وسط احتفالات عارمة. وربما هناك أسباب موضوعية فعلا للاحتفال بإنجاز المشروع الضخم فى فترة زمنية قصيرة وخلال ظروف صعبة، لكن من يتأمل كيفية إتمام المشروع سيجد أنه تم الاستعانة بشركات أجنبية لإتمامه (ما عدا فيما يتعلق بحفر أنفاق للسيارات والقطارات فيما يبدو)؛ أى أن، بعد قرن ونصف من الزمن، لا نلاحظ فرقا كبيرا، من حيث المشاركة المصرية الفعالة، عن مشروع «دى ليسبس» الأول.. إلا ربما من حيث حقيقة أنه لم تتم التضحية هذه المرة بعدد كبير من المصريين خلال عملية الحفر، أساسا لأن التطور التكنولوجى أدى لاستبدال اليد العاملة بآلات حديثة. لكن معظم هذه المعدات صنعت فى الخارج.

إذن، رغم الشعارات التى سادت معظم الحقبة الزمنية التى فصلت بين بناء القناة وشق المجرى الجديد- الشعارات التى أشهرت راية الاهتمام بالعلوم التطبيقية والهندسية فى سبيل دعم الصناعة- لم يتطور الوضع كثيرا. ذلك فى نفس الوقت الذى تم فيه تجاهل العلوم الأساسية، التى لا تشكل لغة وتقنيات العصر الحديث فحسب، إنما أيضا، فى أساسها ومنطقها الفكرى، تحدد إلى حد كبير نظرة الإنسان المعاصر للعالم.. فبدونها نجد أننا معزولون عن العالم الصناعى، ليس فقط من الناحية التكنولوجية والاقتصادية إنما الفكرية أيضا.. نجد أن لا أحد تقريبا فى ذلك العالم يفهم كيف نفكر وماذا نقول، ولا يعرف أو يتعرف على العالم الفكرى الذى نعيش فيه. فحتى (أو ربما بالذات) «النخب» عندنا لا تعرف كيف تخاطب هذا العالم، فالمجتمع عندنا يفرز نخبا لا تعرف فى كثير من الأحيان المنطق السببى فى التفكير وكيفية ربط (وأيضا وربما الأهم فصل) معطيات الواقع من خلاله، حتى لا تبدو الأشياء متشابكة بطريقة معقدة لدرجة اليأس من فهمها- ومن ثم اللجوء لنظريات ملتفة أو تآمرية. المنطق السببى هذا نشأ مع النهج العقلانى الذى صاحب الثورة العلمية فى القرن السابع عشر وتطور فى «عصر التنوير» الذى تلاها فى القرن الثامن عشر، بما جاء بثورات فكرية وأخرى سياسية عدلت أنظمة الحكم ونشأت من خلالها الديمقراطيات الليبرالية الكبيرة (إنجلترا، والولايات المتحدة وفرنسا).

يعتقد الكثيرون أن الاهتمام بالعلوم الأساسية- وربما أيضا الأدب والفن- يشكل نوعا من الرفاهية فى الظروف التى نعيشها. لا أتفق مع هذا الرأى، فقد كتبت من قبل مثلا عن تجربة جنوب أفريقيا فى نقل تقنيات العالم المعاصر- من أجهزة وطرق حسابية والإلكترونيات المتقدمة وتدريب الشباب عليها- عن طريق مشروع هدفه الأساسى حصد نشأة المجرات وتطور الكون فى بدايته. ولم تستضف جنوب أفريقيا (كما فعلت شيلى من قبلها) مثل هذا المشروع فقط نتيجة القيمة التقنية والاقتصادية المباشرة العائدة عنه، إنما أيضا من أجل المشاركة فى بناء الحضارة.. هذا ما قاله لى بالتحديد أحد الأساتذة السود فى جامعة كيب تاون عندما سألته كيف يشرح اهتمام حكومة الأغلبية السوداء (وهو ناشط سياسى فيها) بمثل هذه المشاريع التى يقودها بيض جنوب أفريقيا، فى حين أن الكثير من السود يعيشون فى ظروف أصعب بكثير من معظم المصريين. قال: إننا نريد أن تكون هناك مشاركة أفريقية لأول مرة فى بناء الحضارة المعاصرة.

أريد الختام هنا بكلمة عن «البداية». الطريقة العلمية المعاصرة لم تنشأ فى ظروف مثالية، أو حتى حميدة، فأهم من أسس لها كان العالمان كيبلر ونيوتن.. نيوتن تربى خلال الحرب الأهلية الإنجليزية، وكيبلر أبدع قوانينه عن حركة الكواكب، التى بنى نيوتن عليها نظرياته التى شرحتها سببيا، خلال حرب الثلاثين عاما، التى اجتاحت ما يعرف الآن بألمانيا، وكانت تشبه إلى حد كبير- من حيث العنف الفكرى والفعلى- الصراعات الطائفية البدائية التى تجتاح أجزاء من العالم العربى حاليا. عاش كيبلر فى عالم مظلم تسوده نظريات المؤامرة والشعوذة؛ عالم يتم خطف فيه الناس فى وسط الليل- بما فيه والدة كيبلر نفسه- بتهمة السحر، ككبش فداء يشرح الأوضاع القاتمة، فهذا كان الفكر «السببى» السائد آنذاك. بل فكر كيبلر نفسه لم يخل تماما من الشعوذة. ونفس الشىء ينطبق على نيوتن الذى كان يحاول، كما يفعل البعض عندنا، اقتناء معلومات علمية عن طريق قراءات حرفية للنص الدينى وكان يعتبر أن هذه الاجتهادات، بالإضافة لمحاولاته تحويل الأفلاذ إلى ذهب، من أهم أعماله.

لكن النهج النقدى الذى أسسه هؤلاء من خلال عملهم العلمى كانت له حياة خاصة به، فانتشر لينتشل العالم من حالة مظلمة لا تختلف كثيرا عما نراه فى بعض أوجه عالم العرب المعاصر.. الذى هو فى أشد حاجة لهذا النهج.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية