x

عزت القمحاوي بالنظر إلى دعوة السيسي ودعاء جبريل: آليات البكاء والتجديد! عزت القمحاوي الخميس 16-07-2015 17:55


فجأة خطف محمد جبريل الأنظار من المسلسلات والبرامج التليفزيونية المنتجة ببذخ مافياوي. تمكن الرجل البكّاء من الاستحواذ على اهتمام الجماهير بإنتاج شديد التقشف قوامه الدموع ومكبر صوت، معززًا الانقسام الحاد الذي تعاني منه مصر في ظل فراغ سياسي منقطع النظير.

والأظرف من ذلك، أن الرجل استطاع استدراج السلطة بأعلى مستوياتها إلى مواجهة غير ضرورية وغير كريمة، وجر هذه السلطة إلى الاعتراف بارتكاب كل ما ادعاه الرجل في دعائه على الظالمين، من خلال ردها العصبي.

تم منع جبريل من السفر استنادًا إلى محضر إداري حررته وزارة الأوقاف بحقه، بسبب ما أسمته: "توظيف دعاء القنوت توظيفًا سياسيًا" كما عاتب الرئيس السيسي شيخ الأزهر لأن مواجهة قضية "تجديد الخطاب الديني" لا تتم بالشكل المطلوب.

بداية، فالمنع من السفر بناء على "محضر إداري" أمر يجب أن يثير القلق على الحالة القانونية في مصر، مع ذلك لم يتوقف أحد أمامه، لأن تعطيل القانون أصبح ظاهرة معتادة، والاعتياد هو أخطر ما يمكن أن يواجهه مجتمع، فاعتياد التسلط هو الذي يدمر الدولة لا التسلط بحد ذاته، واعتياد القتل هو الذي يقوض أقوى المجتمعات لا الإرهاب بذاته.

ما علينا! لنعبر هذه النقطة إلى صلب المواجهة التي تتمثل في دعوة السيسي لتجديد الخطاب ودعاء محمد جبريل على الظالمين.

***

دعوة السيسي إلى تجديد الخطاب الديني، لم تظهر للمرة الأولى في خطابه بمناسبة المولد النبوي أول يناير الماضي، بل أعلنها منذ كان مرشحًا، في حواره التليفزيوني مع إبراهيم عيسى ولميس الحديدي، وهذه الدعوة مع الدعوة إلى ركوب الدراجات هما أشهر دعوتين للرئيس. وفي حين تخلى بسرعة عن دعوته لركوب العَجَل مدركًا أن شوارعنا غير مهيأة لذلك، لم يتخل عن دعوة "تجديد الخطاب الديني" رغم أن أزهرنا وأوقافنا غير مهيأين لذلك.

في خطاب الاحتفال بالمولد وجه السيسي حديثه إلى شيخ الأزهر: "أنت والدعاة مسئولون أمام الله عن تجديد الخطاب الديني وتصحيح صورة الإسلام". وخاطب العلماء: "والله لأحاجيكم يوم القيامة، فقد أخليت ذمتي أمام الله لأنه لا يمكن أن يكون هناك دين يتصادم مع الدنيا كلها، فالمشكلة ليست في الدين ولكن في الفكر وهذا يتطلب دورا كبيرا من علماء الأزهر والأوقاف".

وفي اليوم التالي لخطاب المولد، جاءت تصريحات الشيخ الطيب، بأن الأزهر بصدد اتخاذ الخطوات العملية لتنفيذ دعوة الرئيس.

الدعوة والرد تفترضان أن الخطاب الديني مثل فارة النجّار، أو مخرطة الحداد، شيء يمكن ضبط سَنه وترسه على قياس محدد، والبدء في العمل على نحو جديد. ولكن الواقع أن علماء الأزهر والأوقاف الذين يُحملهم الرئيس المسئولية "أمام الله" هم أنفسهم الذين يصدر عنهم الخطاب المراد تغييره، وهذه هي قدراتهم، وهم يعتقدون أن "مسئوليتهم أمام الله" تقتضي أن يعظوا الناس على هذا النحو!

لا يستطيع الدعاة تجاوز قدراتهم ومعتقداتهم لمجرد أن الرئيس طلب منهم ذلك، مثلما لا يستطيع فيل أن يرفرف بجناحين إذا أمره الرئيس أن يطير.

***

لنأت إلى دعاء مقيم الشعائر محمد جبريل في ليلة القدر بمسجد عمرو بن العاص، أول مسجد وضع للناس بمصر حاملاً اسم الرجل الداهية الذي صنع فتنة التحكيم، الفتنة الأولى والأكبر التي نعاني منها حتى اليوم. والتي لا يمكن أن تطاولها فتنة بكاء محمد جبريل وبكاء عشرة آلاف مصل وراءه.

من بين تشنجات البكاء في ليلة القدر، يمكن تبين الخطاب الديني الخاص بمحمد جبريل.

ابتهل الرجل إلى الله بكل الأمنيات: أن يحرر القدس بقدرته، وأن ينجينا من إشاعة الخمر والبغاء، ودعا على من تسببوا في تيتيم الأطفال في بلاد العرب والمسلمين، وطلب نصرة الله على من ظلمنا، وطلب الرحمة للبنات العذارى والمستضعفين والمأسورين، وطلب من الله أن يريه في الإعلام الفاسد آية، وفي الساسة المخربين آية، مثلما أغرق فرعون وجنوده، أوكل إلى الله كذلك رحمة البنات العذارى (لماذا لم يطلب الرحمة للثيبات؟!) وطلب الرحمة للمستضعفين والمأسورين، والرحمة لشهدائنا، مثلما دعا الله أن يحفظ بلادنا من المحن والفتن ما ظهر منها وما بطن وأن يجعلها سخاء رخاء وسائر بلاد المؤمنين، واجعل لنا وللمصريين من كل هم فرجزا ومن كل ضيق مخرجًا وارزقنا من حيث لا نحتسب. إن كان هناك شر يتربص بنا فاصرفه وإن كان خيرا فعجل به".

لا جديد في دعاء القنوت الجبريلي. الرجل ورث البكاء من جيل سابق أبرز رموزه الشيخ كشك. يبكي جبريل منذ أكثر من عقدين، يبكي بمساجد مصر وتتم دعوته للبكاء في الدول الأخرى، وربما كان متوجهًا إلى لندن لإبكاء مسلميها في صلاة العيد عندما تم منعه من السفر. وما قاله في ليلة القدرهو ما يقوله دائمًا.

الدعاء على الفراعين خطاب عام لدى جبريل ولدى غيره من الخطباء، مثله مثل الدعاء على اليهود، والشهداء يمكن أن يكونوا جنود علي أو جنود معاوية التسعة ألاف الذين قُتلوا في معركة بين جيشين مسلمين. والحاكم الظالم سيكون بالتأكيد أي حاكم آخر غير رئيس مصر عندما يتحول الدعاء إلى موضوع للتحقيق.

المشكلة ليست في الخطاب، بل في تأويله. الخطاب نفسه في كل صلاة، وكلما استمعت إسرائيل إلى دعاء تحرير القدس استمتعت واستبشرت بطول بقاء المدينة المقدسة في يديها، أما الحكام الظالمون، فكل منهم يعتبر نفسه غير معني، ويمر الكلام مرور الكرام وقت السلم ، ويثير الفتن وقت الحرب، بعد أن يتسبب في تحويل مقيم الشعائر إلى بطل في أعين البعض وجاسوس في أعين البعض الآخر.

حسب تصريحات مسئول بالأوقاف، فقد قدم جبريل تأويله المضاد لتأويل السلطة في التحقيق الإداري الذي أجرته الوزارة، إذ أعلن أنه "لم يقصد أي قيادة سياسية في مصر، بل كان دعاؤه موجهاً لقادة الدول المعادية لمصر، الذين تسببوا في حالة عدم الاستقرار ودعمهم للعمليات الإرهابية في سيناء، وهو ما تسبب في قتل العديد من أبناء القوات المسلحة والجيش وتيتم أطفالهم وترمل نسائهم." لكننا نقرأ له تصريحات أخرى مغايرة مفادها أن قرار منعه لن يوقفه عن قول الحق.

وسيتمسك الجمهور بالتأويل الذي شاع لخطبة ليلة القدر، مؤيدوه سيعتبرون تصريحه نوع من "التقية" حتى لا يلقي بنفسه إلى التهلكة، والمعسكر الآخر سيعتبره نمرًا من ريح، والذين يحملون فوق رقابهم رؤوسًا تعاني من قوة الذاكرة، يتذكرون أن هذا المشهد بحذافيره مكرر مع مقيم الشعائر نفسه. ويعرفون أننا بصدد إسلامين ينهكاننا بالحرب بينهما، ويقتلان الدولة المدنية تحت سنابك خيولهما النافرة.

***

من كل ما تقدم، يتضح أن التجديد الحق هو تجديد قواعد البيت، أي إعادة اختراع الدولة المنهارة. وهذه مسئولية سياسية يتحملها الرئيس، كما يتحملها كل رجل رشيد خارج دوائر السلطة، فمن النادر أن نعثر على مثل ذلك الرجل في الماكينة التي تدير الدولة اليوم. ومسئولية كل من يعرف أن يدق جرس الإنذار.

للتجديد طريق واحد بلا بديل: رد مؤسسات الدولة إلى احترام القانون، ووضع قواعد إدارية للحياد في المجال العام، بحيث يكون الخطاب الديني في دور العبادة، فتمنع الدولة مكبرات الصوت، وتكف عن الإنفاق على القنوات والبرامج والإذاعات الدينية، وتجبر موظفيها على التصرف ضمن إطار القانون، بلا تمييز بين المواطنين بناء على توجهات الموظف الدينية أو توجهات جمهوره.

ولابد من مراجعة ظاهرة "صناعة رمضان" من المسلسلات والبرامج المعدة خصيصًا لشهر الصيام إلى الإعلانات القاهرة للفقراء، إلى صناعة المخلل والكنافة وصلاة القيام. هذه المنظومة المتكاملة من التجارة المحض والتجارة بالدين، تقتطع شهرًا من حياة المصريين بلا إنتاج، وتحول شهر العبادة إلى شهر للفرز الطائفي والقبلي. شهر يتضرر فيه الأقباط ويشعر فيه الأشخاص الوحيدون بقسوة وحدتهم.

الدراما والبرامج الباهظة التكاليف يتم توظيفها سياسيًا لإقرار تيار سياسي ولون سياسي واحد فاشي يسخر من الثورات وأشواق التحرر، وصلاة القيام تقدم دون تكاليف تُذكر البديل الآخر، البديل الباكي، ولكن المتكبر في الوقت ذاته، حيث يلقي المصلون بسياراتهم كيفما اتفق، ويستحيل على سيارة إسعاف أو نجدة أن تمر أثناء الصلاة التي تستمر حتى منتصف الليل، ويستحيل على مريض أن يستريح، بسبب مكبرات الصوت، وهي بدعة، لا يعتبرها الشيوخ ضلالة، على الرغم من أن هذا الجعير يناقض حقيقة العبادة، وحقيقة أن كل الأنبياء عرفوا ربهم بالصمت، وكل علماء الفيزياء وصلوا إلى الحقائق العلمية بالصمت، ليضعوا إمكانيات تكبير الصوت، ويستخدمها الدعاة في المساجد، فتختلط أصواتهم في الفضاء بما يشبه العواء، لا يمكن تبين لفظ واحد فيه لمن هم خارج المساجد، وإذا تبين، لن نسمع في جميع المساجد إلا ما قاله محمد جبريل في جامع عمرو.

***

لا يمكن تحقيق التقدم على أساس الأمل الخداع بتجديد الخطاب الديني، أو من خلال وضع إسلام في مواجهة إسلام آخر، بل بتنحية كل ذلك وتحجيمه في الأماكن المخصصة له وتحمل المسئولية السياسية عن إعادة بناء الدولة.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية