كتبت مقالا في فبراير الماضي بهذا العنوان، وكنت أقصد «الأحكام العرفية»، وفي هذه المرة استخدم نفس العنوان، وأطلب نفس المطلب، لكن مع نقص كبير في مخزون الأمل، وانخفاض مؤسف في مؤشر السرعة نحو المستقبل.
في المرة الأولى كان الدم يغلي في العروق بعد ذبح المصريين في ليبيا بسكاكين داعش، فكتبت أقول: نحن نعاني من العشوائية والضعف والتفكك والتشرذم في كل المجالات، فالفساد أكل الانتماء، والخلاف في الرأي التهم الود والتوافق، وانهيار الثقة دمر إمكانية التكاتف تحت راية قائد أو زعيم، وهذه هي المشكلة الأصعب التي تواجه السيسي، فالواقع الحالي لا يسمح بنجاح الأفكار الشمولية القديمة، حيث يستطيع الحاكم حشد أنصاره بالإعلام الموحد، والتنظيم السياسي المسيطر، ويستخدم أساليب التأميم، والاعتقال والمصادرات والإسكات بطرق شتى، لكن هذا لم يعد ممكنا في هذا الزمان، بعد أن تعددت وسائل الاتصال، وانفرط الإعلام، وتضخم إحساس الفرد في مواجهة هيمنة الدولة، وازدهرت مؤسسات مراقبة وحماية الحريات بدعم من المجتمع الدولي.
«هذا كله خير لا نتمنى زواله، لكن الأمطار التي لا تجد مجرى، لاتصنع نهرا، تتحول إلى بقع متناثرة حتى تجف، أو تصبح مستنقعات ضارة.
كيف إذن يمكن للسيسي أن يجمع بين كل هذه الروافد المتباعدة ليصنع منهى نهرا؟
كيف يمهد الطريق للمستقبل حسب الخريطة التي أعلنها في 3 يوليو؟
كيف يحيد المخالفين ويقلل من قدرتهم على تعطيل المسيرة، ويحشد المؤيدين ويحثهم على العطاء؟»
هكذا سألت ببراءة، وهكذا كنت أفكر على نفس الموجة التي يجب أن يضبط قائد 3 يوليو حركته عليها، فأنا مع تمكين «النظام» الذي خرج الشعب لتمكينه وتفويضه وانتخابه، ومن بعدها تعلم ألا يخرج، أو «أٌجبر» على الرجوع لمتابعة المشهد من موقعه القديم فوق «الكنبة».
مشكلتي مع الرئيس أنني (الشعب) اخترته، لكنه لم يختارني
(مع ملاحظة أنني كجمال الجمل لم أنتخب السيسي، لكنني رضيت به لما اختاره الشعب، فأنا بالعقل وبالدستور وبالانتماء مجرد واحد من الشعب)
وتضامنا مع مأزق «الضرورة» وتركة الخراب التي أورثها مبارك كخازوق عظيم للبلد من بعده، قلنا نتحمل، ونتواطأ على بعض التقصيرات، فما باليد حيلة، وليس بالإمكان تحقيق الأحلام بضربة واحدة، لكن مادام الطرق إلى المستقبل أمامنا، فسوف نصل، ليس بالضرورة بسرعة الأرنب، لكن بجدية السلحفاة، وهذا أكبر دليل على المقاومة والإخلاص والكبرياء الوطني.. أن نسعى نحو الهدف مهما كان ضعف الوسائل وشح الإمكانيات.
ساعتها فكرت في شق الجبل لفتح الطريق نحو المستقبل، وفكرت في خطوة إعلان الأحكام العرفية، طبعا كنت أتردد في ذلك، لارتباط المصطلح سيئ السمعة بالانقلابات العسكرية والحروب، كما خشيت من وضع مهمة بناء وتطوير الدولة في موقف متعارض مع المكتسبات الديموقراطية والحريات الفردية، ولكن مع تصاعد مخاطر الإرهاب بهذا الشكل المخيف في الداخل والخارج، ووجود أرض سانحة له بين أعداد كبيرة من السكان نتيجة تجريف الوعي وتدني حالة الانتماء للوطن، عادت الفكرة تدور في رأسي، خاصة وأن المادة الأولى في قانون الأحكام العرفية المصري تنص على تفعيل هذا القانون «إذا تعرض الأمن والنظام العام في الدولة أو في جهة منها للخطر، أو بسبب وقوع عدوان مسلح عليها أو خشية وقوعه وشيكاً، أو بسبب وقوع اضطرابات داخلية، كما يجوز إعلان الأحكام العرفية لتأمين سلامة القوات المسلحة وضمان تموينها وحماية طرق مواصلاتها وغير ذلك بما يتعلق بتحركاتها وأعمالها العسكرية خارج الأراضي»، وهذا النص ينطبق تماما على مانحن فيه وأكثر.
وقلت: اعلنها ياريس، لأنها تطبق دون إعلان منذ يناير 2011، وللأسف تطبق بتشوهات قانونية وإعلامية فتتحمل الدولة سلبياتها ولا تجني الفائدة المرجوة منها، اعلنها ياريس لنتخلص من المهاترات والتعطيل، ونركز في الهدف المركزي للمرحلة، اعلنها ياريس مع التعهد باستكمال الاستحقاقات الديموقراطية، اعلنها بالتنسيق مع الأعضاء الموقعين على اتفاقية الدفاع العربي المشترك، اعلنها لترتيب مواجهة عسكرية إقليمية شاملة ضد الإرهاب تحت مظلة جامعة الدول العربية.
وفي نهاية مقال فبراير كتبت «للحديث بقية»
كنت أقصد بالبقية قصة «قوة الدفاع العربي المشترك»، وكيف يمكن تمريرها دون أن تصبح أداة سرية يحركها «الناتو» وأتباعه في المنطقة، وهو الشرط الذي يقف حتى الآن أمام تطبيق الفكرة في الواقع.
لكن البقية اليوم تختلف، فالرئيس لم يلتفت لندائي بالشفافية التي كنت اتصورها عنه، ولم ينصرف عن الفكرة، لكنه يطبق الأحكام العرفية من دون إعلان، كما طبقها مجلس الحكم العسكري، ومجلس الحكم الإخواني، وإلا كيف أفهم التقاعس اللذيذ في انتخاب البرلمان، والسيولة التشريعية التي طالت كل شئ، حتى التحكم الرئاسي المباشر في الأجهزة الرقابية، نحن لدينا دستور متوازن يوهمنا بتقليل صلاحيات الرئيس، لكن الواقع السياسي لايوجد فيه سلطة لأي فرد أو مستوى سوى الرئيس، وليت الرئيس يسمع شعبه كما وعد وتعهد، وليت الرئيس ينظر بجدية واهتمام إلى مسألة بناء النظام السياسي الديموقراطي المتوازن، لأنها أول الطريق للمستقبل، وأول الطريق لمواجهة الإرهاب، وأول الطريق لإقامة العدل، ومنع التسلط والفساد.
وكل عام وانتم بخير.
جمال الجمل