لفت انتباهى خلال الفترة الأخيرة ذلك الجهد الواضح لثلاثة أشخاص فى سدة المسؤولية، يتقدمهم المهندس إبراهيم محلب رئيس الوزراء، والمستشار هشام جنينة، رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات، وعبدالواحد النبوى، وزير الثقافة، الغريب فى الأمر أن الثلاثة هم الأكثر عرضة للانتقاد والتشكيك، واللت والعجن، وهى ظاهرة غريبة جداً، تؤكد أن مجتمعنا لا تعنيه أبدا قيمة العمل، بعد أن أصبحت (الفهلوة والهمبكة) جزءاً أصيلاً من مكوناته.
ربما كان رئيس الوزراء، حسب متابعتنا له، يعمل على مدار الساعة.. قد تكون لدينا ملحوظة حول الأولويات فى اهتماماته. وربما كان رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات رجلا جادا يحقق إنجازات يومية، وربما كان وزير الثقافة أكثر من يؤدون عملهم فى صمت، إلا أنه بدا واضحا أنّ لا هذا ولا هذه ولا تلك، هو ما يحتاجه مجتمعنا، القضية بالدرجة الأولى علاقات عامة، صداقات، اتصالات، نفاق، رياء، سوف يتوارى الضعف المهنى خلف كل ذلك، سوف نجد من يشيد بالفشل، بل سوف نجد من يحميه.
هذه هى الحقيقة، الكفاءة وحدها لم تعد مبررا للاستمرار فى العمل أو الحكم عليه، قد يكفى أن تكون متآمرا، وقد يكفى أن تكون وديعا- بتسمع الكلام- وقد يكفى أن تكون تابعا لعصابة من نوع ما، أيديولوجية، أو حنجورية، أو حتى مزاجنجية، المهم ألا تعتمد بالدرجة الأولى على الإنجازات، أو التفوق المهنى، سوف يتوارى كل ذلك خلف الضجيج الذى تلعب المؤمرات دورا كبيرا فى إحداثه، والقلاقل اليومية التى يحركها المال فى معظم الأحيان.
أعتقد أن الثلاثة المشار إليهم تحديدا قد فطنوا أيضا إلى هذه اللعبة، وإن جاء ذلك متأخرا، فأولوها اهتماما كبيرا بالالتصاق بوسائل الإعلام، والرد الفورى على كل ما يتردد، والتعقيب أولا بأول على كل ما يقال، قد لا يدرك البعض كم الوقت والجهد الذى تستنزفه هذه العملية، وماذا كان يمكن أن يحدث لو تم إنفاق هذا الوقت وذلك الجهد لصالح العمل وفقط، إلا أنها الضرورة التى تحتم على كل المجتهدين الانجرار إلى مهاترات هنا وهناك.
أضف إلى ذلك كم القضايا بالمحاكم التى يسعى من خلالها المتربصون إلى تحويل تركيز هذا المسؤول أو ذاك عن العمل، وقد يكون رئيس الجهاز المركزى النموذج الأوضح لهذه المأساة، ما بين محاكم إدارية ومدنية وجنائية، وهى الأزمة التى لا يسلم منها معظم المسؤولين الآن، وهو أمر قد لا نجد له نظيرا فى أى مكان آخر فى العالم، سوى أُمّ الدنيا.
ولو تابعنا كم الانتقادات الفضائية لرئيس الوزراء، ليس لشىء، إلا لجهوده اليومية، وكم الطعن فى شخص رئيس الجهاز المركزى، ليس لشىء، إلا لأنه كشف الكثير من الفساد المستتر، وكم التجاوزات بحق وزير الثقافة، ليس لشىء إلا لأنه ليس تابعا لشلة اليسار، أو لعصابة الشيوعيين.. لو تابعنا كل ذلك سوف نجد أن منظومة التشكيك واحدة، هى نفسها منظومة الفساد، هى ذاتها منظومة الفاشلين.
ما أثار انتباهى فى هذا الشأن أمران مهمان، الأول منهما هو ذلك الصبر والدأب الذى جعل أيا من الثلاثة يستمر فى موقعه دون انسحاب فورى، خاصة أن الأجواء بصفة عامة من حولهم ليست أجواء إنتاج أو إبداع، وقد فسرت ذلك شخصيا بأن خدمة الوطن تستدعى هذا الصبر وذلك الدأب. الأمر الثانى هو: لماذا تم الإبقاء على ثلاثتهم رغم هذا الهجوم الضارى والمنظم بشأنهم؟!، وقد فسرت ذلك أيضا بأن البدائل دائماً كانت صعبة، حين إجراء أى تشكيل وزارى، أو حتى غير وزارى، ومن هنا كان استمرارهم، إلا أننى لم أتوقف أبدا أمام الأسباب الموضوعية التى تتعلق بعامل الكفاءة، هكذا اعتدنا، وهكذا تعودنا، وهكذا عشناها بكل مرارتها.
ربما كان الأمر مختلفا هذه المرة، هذا ما نأمله.