x

سعد الدين ابراهيم من تلاميذى الذين أثّروا فى مسيرتى: المهندس مُحب زكى سعد الدين ابراهيم الجمعة 10-07-2015 21:42


في بداية العام الدراسى الثالث ليّ كأستاذ في الجامعة الأمريكية بالقاهرة (1977-1978) فوجئت بمنظر رجل أشيب الرأس، يجلس بين طُلاب، لا يتجاوز أكبرهم العشرين من العُمر. وكان هذا الأشيب هو الأكثر انتباهاً وتركيزاً، لكل ما أقوله في مُحاضرتى، بما في ذلك التدوين الكتابى النشط. وفى ذلك كان أكثر من بقية زُملائه. كما أنه كان أحد ثلاثة أو أربعة وجّهوا لى أسئلة عميقة في موضوع المُحاضرة.

وبعد انتهاء الدرس، والطلبة يُغادرون، استوقفت الطالب الأشيب الذي جذب انتباهى شكلاً لكِبر سِنّه، وموضوعاً لعُمق أسئلته. حاولت الاستفهام منه، ما إذا كان زائراً عابراً للجامعة؟ فأجابنى بالسلب، أي أنه طالب كل الوقت. وقد أدى مصروفات الجامعة، وأبرز بطاقته الجامعية، وبابتسامة رقيقة، قال إذا كان لديك بعض الوقت، أخبرك بقصتى.

وكنت بالفعل شغوفا بمعرفة قصة هذا الطالب الأشيب. اتضح أنه المهندس ورجل الأعمال مُحب زكى، الذي عمل في القطاع العام في بداية تخرجه لعدة سنوات في مصر الناصرية. واستقال وبدأ شركة صناعية مع أحد زُملائه. وكانت ناجحة ومُجزية من حيث العائد على الاسثتمار. وبعد عشر سنوات، ومع دخول أكبر أبنائه للجامعة الأمريكية، تصادف اطلاعه على كُتبه الجديدة في تلك الجامعة الخاصة، وكان منها كتاب قمت بتأليفه مع زميل أمريكى في مادة المجتمع العربى. وطبقاً للطالب الأشيب، استهواه ما قرأه. ثم اكتشف أنه يستطيع أن يلتحق بالجامعة الأمريكية لدراسة أي فرع يرغب فيه.

وبعد عدة أسابيع من التقصى والتفكير اتخذ قراراً بتصفية أعماله الصناعية ـ التجارية، والالتحاق بالجامعة الأمريكية كل الوقت، لدراسة العلوم الاجتماعية!

سالته هل تعثر عملك الخاص؟ هل اختلفت مع شريكك؟ وكانت إجابته على السؤالين قاطعة. فالشركة تُحقق أرباحاً مُجزية، وشريكه صديق عُمر، وأكثر من شقيق. وهو والأسرة حاولوا إثناءه عن قراره، ولكنه كان قد حزم أمره، بأن يُحقق ذاته فيما اكتشف أنه أكثر إشباعاً له من الهندسة والصناعة والتجارة. ولكى يكون مُنصفاً وعادلاً مع أفراد أسرته، فقد أودع لزوجته ولكل من ولديه ما يكفى لتأمين حياة كريمة لهم لعشرين سنة تالية.

وانتشرت حكاية المهندس مُحب زكى في الجامعة الأمريكية، بين الأساتذة والطلبة، خاصة أنه كان يحوز على تقدير امتياز في كل مادة يدرسها. وعُرف عنه الاجتهاد والدقة والإتقان في كل ما يفعله، وفى كل ما يُكلفه به آخرون من أساتذته أو أصدقائه وزُملائه.

ولكن الذي لم أكتشفه في حينه، فهى صفة الوفاء الخالص. فعندما قرر نظام الرئيس الأسبق حسنى مُبارك أن يكيد لى، ولفّق عدة قضايا، لحبسى ثم لسجنى، وانفض كثير من المعارف والأصدقاء عنى، حفظاً لمواقعهم أو طموحاتهم في السُلطة، كان المهندس مُحب زكى نموذجاً للإخلاص والوفاء.

وخلال المُحاكمات الثلاث التي خضتها بين محاكم الاستئناف والنقض، لم يتخلف المهندس مُحب زكى عن أي جلسة. بل أكثر من ذلك واظب على حضور كل اجتماعات هيئة الدفاع التي شارك فيها عشرة من أبرز المحامين في مصر. ولم يُسهم فقط في المناقشات الشفوية، بل كثيراً ما كان يُعد مُذكرات مكتوبة لتفنيد كل من الاتهامات الأربعة التي وجهتها نيابة أمن الدولة لى ولزُملائى الخلدونيين العشرين. وعلى امتداد ثلاث سنوات من التقاضى، لم يكتشف كبار المحامين أن مُحب زكى مهندساً وليس مُحامياً. ولم تتضح لهم تلك الحقيقة إلا مُتأخراً جداً.

ولكنهم عرفوا سر اهتمامه وإتقانه لصياغة المذكرات القانونية. فقد اتضح أن والده الراحل كان المستشار زكى إسحق، أحد قُضاة الاستئناف في خمسينيات القرن الماضى. وكان الشاب مُحب مُعجباً وفخوراً بأبيه. وكثيراً ما كان، وهو طفل وشاب، يستمع إلى أحاديث الوالد وحواراته مع زُملائه من القُضاة، فضلاً عن إطلاعه على كُتب القانون.

وحيث تطوع عدد من المحامين الدوليين، من كندا والدول الإسكندنافية للمشاركة في الدفاع عنى وعن زُملائى الخلدونيين، كان المهندس مُحب زكى، الضليع في اللغتين الإنجليزية والعربية، هو همزة الوصل بين أولئك المُحامين، وزُملائهم المصريين.

وحينما توّجت تلك المجهودات القانونية، المصرية والدولية، بالحصول على البراءة من محكمة النقض، أعلى محاكم الديار المصرية، كانت فرحة المُهندس مُحب زكى لا تقل عن فرحة جميع المتهمين الذين حصلوا على البراءة.

وظل المهندس مُحب زكى على وفائه وإخلاصه ودقته وإتقانه في مرحلة تالية، لا تقل أهمية وحساسية، عن مرحلة المُحاكمات، ألا وهى إعادة بناء مركز ابن خلدون للدراسات الديمقراطية. فقد كانت الأجهزة الأمنية للمركز بالمرصاد. وفى اليوم الذي حصلنا فيه على البراءة، حرّضت تلك الأجهزة بعض عُملائها لنهب مقر مركز ابن خلدون في منطقة المقطم، وإشعال النار فيه. ولولا رحمة الله وشهامة المصريين من جيران المركز، لكان المبنى ومحتوياته قد احترق عن آخره.

وبعد عدة أسابيع لالتقاط الأنفاس، ثم إعادة بناء المركز تحت العين الساهرة للمهندس مُحب زكى وآخرين من أصدقاء ابن خلدون. وتمت إعادة افتتاح المركز في احتفال دولى في أواخر يونيو 2003. ولم يكن هناك أفضل من مُحب زكى لكى يكون مُديراً تنفيذياً له. وهو ما قبل القيام به، إلى أن وصل إلى الثمانين من عُمره، فطلب بتهذيب شديد إعفاءه من المهام الإدارية، مُكتفياً أن يكون مستشاراً للمركز.

ومن أفضل صفات مُحب زكى قدرته الفذة على تعليم وتدريب الآخرين. وبهذه القدرة، تتلمذ على أيديه جيلان على الأقل من الخلدونيين، بل ومن طلبة الجامعة الأمريكية. ففى عديد من المناسبات حينما لم أكن أستطع إلقاء محاضراتى في الجامعة، كنت أطلب من مُحب زكى أن ينوب عنى. ولم يكن يتأخر. ومن الطرائف أن الطلبة كانوا يجدونه أكثر كفاءة في التدريس. وكانوا يتطلعون إلى مناسبة سفرى لمؤتمر هنا أو هناك، لكى يأتى لهم مُحب زكى بديلاً.

أطال الله عُمر المهندس مُحب زكى، ومتّعه هو وزوجته الوفية، ليليان، بالصحة والسعادة.

وعلى الله قصد السبيل

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية