نشرت الزميلة (الوطن) فى عددها، الذى صدر يوم الأربعاء الماضى، نص ما وصفته بأنه (مسودة مشروع قانون الهيئة الوطنية للإعلام)، الذى أعدته وزارة العدل، تمهيداً لمناقشته داخل اللجنة العليا للإصلاح التشريعى، قبل إعادته إلى الحكومة مرة أخرى، لتتخذ إجراءات استصداره، ولأن وزارة العدل لم تنف الخبر، ولم تتحفظ على النص الذى نشر، فمن حقنا أن نُدهش لأن الوزارة لم تقدم أى تبرير لإسراعها بإعداد مشروع قانون هذه الهيئة – التى تختص طبقاً للدستور بإدارة المؤسسات الإعلامية المرئية والمسموعة المملوكة للدولة، والمعروفة إعلامياً بإمبراطورية ماسبيرو.. وتجاهلت الكيانين الآخرين اللذين ينيط بهما الدستور تولى إدارة شؤون الصحافة والإعلام، وهما (المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام) – الذى يختص بتنظيم شؤون الصحافة الورقية والإلكترونية والإعلام المرئى والمسموع – سواء كان خاصاً يملكه الأفراد أو الشركات أو عاماً تملكه الدولة – و(الهيئة) الوطنية للصحافة – التى تختص بإدارة الصحف المملوكة للدولة، والمعروفة – حتى الآن – بإمبراطورية الصحف القومية.
وربما كان السبب فى هذا أن الحكومة قد أدركت أنها أخطأت حين ألغت وزارة الإعلام، التى كانت تدير إمبراطورية ماسبيرو، قبل أن يتشكل البديل الذى يحل محلها وهو (الهيئة الوطنية للإعلام)، وهو ما دفعها – كما تقول التسريبات الصحفية – للتفكير فى إعادة هذه الوزارة، مع أن وزارة الإعلام لاتزال – من الناحية العملية قائمة – بعد أن انتقلت سلطات الوزير إلى رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون، والفارق بين الوضعين أن الوزير السابق كان من حقه حضور اجتماعات مجلس الوزراء، بينما رئيس الاتحاد يمارس سلطات الوزير واختصاصاته باستثناء حضور اجتماعات المجلس، ثم انتهى تفكير الحكومة، فيما يبدو، إلى الإسراع بإصدار قانون الهيئة الوطنية للإعلام، لعل ذلك يُصلح خطأ تعجلها فى إلغاء الوزارة.
ولأن الحكومة لم تتعلم بعد الدرس، الذى يقول إن فى العجلة الندامة، فإن الذين أعدوا مسودة مشروع قانون هذه الهيئة، لم يجدوا فيما يبدو الوقت الكافى لإتقان عملية التلاعب فى نص المادة 72 من الدستور، التى تلزم الدولة بضمان استقلال المؤسسات الصحفية ووسائل الإعلام المملوكة لها (بما يكفل حيادها وتعبيرها عن كل الآراء والاتجاهات السياسية والفكرية والمصالح الاجتماعية، ويضمن المساواة وتكافؤ الفرص فى مخاطبة الرأى العام)، فاختصروها اختصاراً مخلاً، واكتفوا بالنص على استقلالها وضمان تنوعها وتعدديتها، وشطبوا بقية المادة، مع أن الأصل فى القوانين المكملة للدستور، هو أنها تفصّل ما أجمله، لا أن تدمج ما فصّله، وهو ما تنبهت له اللجنة الوطنية لإعداد تشريعات الإعلام، فضمنت مشروع القانون الذى تقوم بمناقشة مسودته الأخيرة هذه الأيام مواد لا تكتفى فحسب بإيراد النص الدستورى كاملاً، بل تنص كذلك على أن يكون أعضاء كل من الهيئتين الوطنيتين للإعلام والصحافة، وهما اللتان ستتوليان إدارة الإمبراطورية الإعلامية والصحفية التى تملكها الدولة – مستقلين عن الأحزاب السياسية، وألزمت كل من كان حزبياً منهم بأن يجمد عضويته فى الحزب الذى ينتمى إليه طوال فترة عضويته فى الهيئة، وهو شرط ينطبق كذلك على كل من يتولى المسؤولية فى إدارة الوحدات الصحفية والإعلامية المملوكة للدولة، مثل رؤساء مجالس الإدارات ورؤساء التحرير ومديرى القنوات والمحطات، وأعضاء مجالس الإدارات والجمعيات العمومية بهذه الوحدات.
وبالقراءة العابرة لنص المسودة، نكشف عن أن الذين صاغوا مسودتها يسعون، على عكس ما ينص عليه الدستور، إلى تكريس الأوضاع الراهنة فى إمبراطورية ماسبيرو، بحيث تظل إحدى الإدارات التابعة للسلطة التنفيذية بالكامل، وتمهيداً لذلك تنتزع للهيئة الوطنية للإعلام أهم سلطات المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام.
فمع أن المسودة تنص فى المادة الأولى منها على أن تسرى أحكامه على المؤسسات الإعلامية المرئية والإذاعية المملوكة للدولة، أو تساهم فيها بنسبة 60% على الأقل، إلا أن الذين وضعوها سرعان ما نسوا ذلك، واندفعوا يمنحونها سلطات لا حدود لها ولا تدخل فى اختصاصها بحكم الدستور، من بينها – فى المادة الثالثة – حقها فى إلزام المؤسسات الإعلامية، (هكذا بدون تمييز بين ما تملكه الهيئة وما يملكه غيرها) – بأصول المهنة وأخلاقياتها، وحقها فى وضع نظام لمراقبة مصادر تمويل وإعلانات هذه المؤسسات، وحقها فى توقيع الجزاءات على المخالفات التى يقع فيها العاملون فى المجال الإعلامى (!!) ووضع القواعد التى تحقق المنافسة المشروعة وتحول دون الممارسات الاحتكارية بين المؤسسات الإعلامية، ووضع مدونة للسلوك المهنى الإعلامى.
وبهذه النصوص وغيرها، انتزع الذين صاغوا هذه المسودة لإمبراطورية ماسبيرو الجانب الأكبر من اختصاصات المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، وبعض اختصاصات نقابة الإعلاميين، ومنحوا للهيئة الوطنية للإعلام، التى يفترض أن تقتصر سلطتها على إدارة المؤسسات الإعلامية المملوكة للدولة دون غيرها سلطات على الإعلام الخاص، الذى ينظم شؤونه المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام.
وفضلا عن أن المسودة قد خلت من أى إشارة إلى الإدارة الذاتية للمؤسسات الإعلامية المملوكة للدولة، كما هو الحال فى الصحف القومية، فإنها تقضى بأن تختار الهيئة الوطنية للإعلام – وهى مكونة من 11 عضواً – مديراً تنفيذياً من غير أعضائها، تمنحه سلطات واسعة، وتفوضه فى ممارسة سلطات مجلس الإدارة، وحتى ترتاح رابطة عبده مشتاق الإعلامية، فإن هذا المدير التنفيذى هو وزير الإعلام وإمبراطور ماسبيرو القادم.
وألف نهار أبيض!