يُمثل د. مصطفى الفقى ظاهرة فريدة فى المزج بين الفكر والسياسة والدبلوماسية والتاريخ. وفى كل من هذه الميادين الأربعة يصول ويجول مصطفى الفقى كما لو كان ذلك هو تخصصه المهنى المُنفرد. ولكن المحظوظين الذين عرفوا أو يعرفون الرجل عن قُرب سيُدركون أنه كدبلوماسى، خدم بامتياز فى محطات وعواصم هامة، مثل لندن ونيودلهى وفيينا، وكان امتداداً لمدرسة الدبلوماسية المصرية العريقة التى كان د.محمود فوزى والسيد محمود رياض، ود.مُراد غالب من أقطابها، حيث شغل كل منهم منصب وزير الخارجية فى لحظات حرجة من تاريخ مصر المُعاصر، بعد الحرب العالمية الثانية.
وكان ثمة شُعبة فرعية من تلك المدرسة الدبلوماسية العريقة، وهى شُعبة الدبلوماسيين الأكاديميين. وهم أولئك الذين استفادوا من فُرصة تعيينهم مُلحقين أو «سكرتارية» أوائل فى عواصم العلم الغربية، مثل لندن وباريس وروما وواشنطن، فالتحقوا بإحدى جامعاتها، فى الأقسام المسائية، للدراسات العُليا، فى التاريخ أو العلوم السياسية أو القانون الدولى. وحصلوا على درجة الدكتوراه فى أحد هذه الميادين. وهو ما فعله الدبلوماسى الشاب مصطفى الفقى، أثناء خدمته الدبلوماسية فى سفارتنا فى لندن.
وكان مصطفى الفقى قد تخرج ضمن الدفعات الأولى للكلية الناشئة فى جامعة القاهرة، فى أوائل ستينيات القرن الماضى، وهى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ضمن جيل ثورى نابه، ونابغ، من أمثال عمرو محيى الدين، وعلى الدين هلال، ومحمود عبدالفضيل، وعبدالمنعم سعيد، وأسامة الغزالى حرب. وتتلمذوا على أيدى آخر عمالقة الجيل الليبرالى من اقتصاديين ومؤرخين وجغرافيين ـ مثل د. زكى شافعى، وعبدالملك عودة، ولبيب شُقير، وصفى الدين أبوالعز، ومحمود أنيس. وهو ما أعطاه أساساً موسوعياً، سيستفيد منه طوال مسيرته فى الحياة العامة.
وشغل مصطفى الفقى مواقع استشارية وتنفيذية ونيابية، لم تتح لكثيرين من أبناء جيله وأقرانه. فقد اكتشفه مُبكراً، الراحل أسامة الباز، واختاره مُساعداً له، سواء وهو مُدير لمركز الدراسات الدبلوماسية، أو وهو مستشار لرئيس الجمهورية، فى أواخر عهد الرئيس جمال عبدالناصر، ثم فى عهدى الرئيسين أنور السادات وحسنى مُبارك.
وحين أعاد الرئيس الراحل أنور السادات التعددية الحزبية، ومع اختيار مصطفى الفقى أن يخوض التجربة البرلمانية، ثم انتخابه لمجلس الشعب، حيث ترأس لجنة الشؤون العربية ثم لجنة الشؤون الخارجية.
وفى نفس الوقت، وطوال تلك السنوات، حرص د. مصطفى الفقى على التأليف والتدريس، حيث ظل لعدة سنوات يقوم بتدريس العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. ويُشارك فى مُناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه فى الجامعات المصرية والعربية.
ومن مُلاحظاته الثاقبة وصفه لجيله بأنه مثل الطابق المسحور فى البنايات الحديثة، وهو ذلك المستوى بين الطابقين الأرضى والأول، أو بالتعبير الشعبى مثل تلك التى رقصت على السُّلم، فلم يرها من هم فى الطابق الأرضى، ولا من هم على السطح. فقد ظلت نُخبة ثورة 1952 تحكم البلاد لنصف قرن (عبدالناصر - السادات - مُبارك). وبذلك صادرت على فُرصة جيلين كاملين، منهم جيل مصطفى الفقى نفسه.
كما لم ينقطع الرجل عن الكتابة الصحفية وعن البرامج الحوارية فى وسائل الإعلام المصرية والعالمية.
ورغم كل هذا النشــــاط الجاد لم يُغفل د. مصطفى الفقى قلبه، فصال وجال أيضاً رومانسياً. وكان له هو ورفيقه وصديقه د.على الدين هلال مُغامراتهما الرومانسية فى لندن وأثينا وقُبرص والقاهرة.
وفى كل هذا النشاط الفكرى والإعلامى المتميز، ظل د.مصطفى الفقى أميناً فى عرض وجهات نظره، وسلساً فى التعبير حتى عن أدق وأعقد أمور السياسة والاجتماع. وهو ما يجعلنى دائماً، حريصاً، على قراءة كل ما يجود هو به علينا نحن أصدقاءه وقرّاءه.
وكان آخر ما قرأت له فى «المصرى اليوم» (15 /6 /2015) فى ذكرى هزيمتنا المروعة فى حرب يونيه 1967، بعنوان: «حرب حزيران وذكرى الأحزان». وهى ذكرى أحزان حقيقية، فعلاً لكل من عاشها، مثل هذا الكاتب (سعد الدين إبراهيم)، ومثل مصطفى الفقى. فقد كان أبناء جيله وجيلى (الذى يكبره بخمس سنوات). ولا أعتقد أن أياً منا سينسى بقية حياته صدمة تلك الهزيمة التى تركت فينا جميعاً جراحاً فاترة من الألم والهوان، خاصة أننا كنا نتوقع انتصاراً خاطفاً، نُحرر به فلسطين كلها، ونتخلص من الكيان الصهيونى إلى غير رجعة!
لقد استعاد مصطفى الفقى معنا تلك الذكرى الأليمة مع تشخيص عقلانى لكل من يهمه أمر إدارة علاقتنا مع خصومنا وأعدائنا، دون تهوين من شأنهم، أو تهويل من قوتهم. وهو الأمر الذى نجح فيه بامتياز الرئيس الراحل أنور السادات، سواء فى الحرب أو السلام.
إن د.مصطفى الفقى هو أحد العناصر المُتميزة لقوة مصر الناعمة، ومازال الرجل قادراً، وراغباً، ومُستعداً للعطاء. فليحفظه الله لمصر ولأمته العربية.
وعلى الله قصد السبيل.