تلقيت دعوة كريمة من جريدة «المصرى اليوم» لحضور الاحتفال بعيد ميلادها الحادى عشر ومع الالتقاء بنجوم الجريدة عادت بى الذاكرة إلى أيام عضويتى بمجلس الشعب وتذكرت كيف كانت جريدة «المصرى اليوم» معبرة عن هموم المواطن المصرى وهموم الوطن، وبالرغم من حداثة الجريدة فى تلك الفترة من 2005، إلا أنها كانت الأكثر انتشاراً وتوزيعاً بين الصحف المستقلة، لما كانت تتمتع به من موضوعية واستقلالية وشجاعة فى تناول الموضوعات خاصة السياسية منها.
وأشهد أن الجريد فى تلك الفترة كانت شريكة بالكامل لنواب المعارضة المصرية فى المجلس تنشر آراءهم واستجواباتهم وتجرى حوارات مطولة معهم، مما ساعد النواب على نشر ما كان يُحجب من آراء وأفكار ومعلومات داخل المجلس وطرح كل ذلك على الرأى العام.
ولا شك أن هذا النجاح كان وراءه رجال مخلصون لوطنهم محترفون لمهنتهم، سواء على مستوى الإدارة أو الصحفيين والفنيين، ودعمتهم ثقة المواطن العادى فى الجريدة ومصداقيتها، فكان انتشارها وتفوقها فى التوزيع.
وفى الحفل التقيت بقائد كتيبة «المصرى اليوم» ورئيس تحريرها، الأستاذ محمود مسلم، الذى كان رئيساً لقسم البرلمان فى الجريدة أثناء عضويتى فى مجلس الشعب، وانتزعت منه موافقة– بعد إلحاح– على إعادة نشر مقال كنت قد كتبته فى إبريل 2011 تعريفاً لدوره الوطنى ودور الجريدة بالطبع فى محاربة فساد وطغيان واستبداد الحكم فى فترة ما قبل ثورة 25 يناير وكان المقال بعنوان: محمود مسلم الجندى المجهول وراء نواب المعارضة صحفى محترف ضد الفساد «ووداعـــاً ديليسبس»
وإلى نص المقال:
فى بداية شهر يونيو 2007 تقدمت ومعى مائة نائب معارض فى مجلس الشعب بعريضة اتهام سياسى وجنائى ضد الدكتور يوسف بطرس غالى لإخفائه أكثر من ثلاثة عشر مليار جنيه من حصيلة الخصخصة.
وكالعادة قمت بتوزيع عريضة الاتهام على جميع المحررين البرلمانيين فى مجلس الشعب، تابعت الصحف فى اليوم التالى فوجدت أن الموضوع قد تم تناوله من جانب العديد من السادة الصحفيين، وكان لافتاً للنظر تغطية متميزة ومحترفة تنبئ عن فهم عميق للاتهام والأسس التى بنى عليها بأسلوب السهل الممتنع والذى يصل بالفكرة إلى القارئ العادى غير المتخصص وأعجبت جداً بالصحفى الذى حرر الخبر فأعدت قراءة اسمه، ومن يومها حفر الاسم فى ذهنى، إنه محمود مسلم، ولم أكن أعرفه قبل تغطيته لهذا الموضوع.
وبدأتُ أتابع تغطياته الصحفية البرلمانية وحواراته ومقالاته فشعرت أنه صحفى معارض بامتياز.
وتوطدت علاقتنا فاكتشفت فيه مدى إخلاصه ونقائه وتفانيه من أجل المصلحة العامة مع تحليه بالشجاعة والمصداقية والاستغناء عن أى مصالح أو منافع فى سبيل أداء واجبه الوطنى، من خلال محراب الصحافة الوطنية المخلصة.
ولن أنسى حديث الصحفى والإعلامى الرائع، المرحوم مجدى مهنا، عن محمود مسلم أثناء لقائى به– رحمه الله – فى إحدى حلقات برنامجه التليفزيونى «بعد المداولة» والذى كان يذاع على القناة الثانية بالتليفزيون المصرى.
وكان معى النائب الثائر دائماً محمد عبدالعليم داوود، حيث تحدث مجدى مهنا عن محمود مسلم حديثاً لا يملك المستمع له إلا أن يحترم ويقدر هذا الصحفى بالغ الاحترام.
وتوالت الخبطات الصحفية التى سببت متاعب جمة لمحمود مسلم، لأنها كانت تضرب مصداقية الحزب الوطنى فى الصميم وتظهر مدى تواطئه مع الحكومة على إفساد الحياة السياسية فى مصر، وأذكر هنا على سبيل المثال فضيحة الحكومة والحزب الوطنى فى قضية الرشاوى السياسية لنواب الحزب الوطنى بمجلس الشعب.
فحين حصلت– بالأسماء والمستندات والأرقام – على من حصلوا على هذه المبالغ التى وصلت إلى 100 ألف جنيه لكل نائب من نواب الحزب الوطنى لصرفها على دوائرهم وثبت من المستندات أن نواب الحزب الوطنى قد صرفوها فى رحلات اليوم الواحد وشراء عجل أطفال والمساهمة فى تجهيز العرائس ومبالغ نقدية للمواطنين وكانت كل هذه المبالغ من ميزانية الدولة، حين حصلتُ على ذلك لم أجد أى صحيفة مستعدة لنشر هذه الفضيحة، بالرغم من وجود المستندات وأشفقت على محمود مسلم من أن يتولى هو نشر هذه الفضيحة، إلا أننى عرضت عليه الأمر ففوجئت بموقف أذهلنى باستعداده الكامل للنشر وتحت مسؤوليته، بل أصر هو على عدم الإفصاح عن مصدره، بالرغم من أننى كنت نائباً فى مجلس الشعب وأتمتع بالحصانة.
وبالفعل قام محمود مسلم بنشر الأسماء كاملة للنواب المنتفعين بهذه الأموال، وأنا أعلم مقدار ما ناله من غضب، ، ومع ذلك فعلها محمود مسلم ولم يبال، لإيمانه بأن فضح هذه الممارسات يصب أساساً فى مصلحة الوطن وإن كانت تعارض مصالحه أو تعرضه للخطر.
وتأتى الخبطة الثانية، حين أجرى محمود مسلم حديثاً مع المستشار مقبل شاكر فى برنامجه «منتهى السياسة»، حيث قرر رئيس محكمة النقض أن عدد الطعون المقبولة والتى تم إرسالها إلى مجلس الشعب بلغ 120 طعناً تقريباً واستندت لهذا الحديث بالجلسة العامة لمجلس الشعب، حيث لم تعرض علينا أى تقارير ولم تعرضها اللجنة التشريعية والتى كنت عضواً فيها، حتى إننى سألت الدكتور أحمد فتحى سرور «إن كان يوجد برلمان غير مجلسنا هذا؟» فرد على محمود مسلم عبر رسالة قصيرة ساخراً بأنه «يوجد برلمان الشباب وربما أن التقارير قد أرسلت إليه».
وطالبت المجلس ورئيسه ورئيس اللجنة التشريعية بأن نطلع على هذه التقارير دون جدوى.
فحصلت من مصادر خارج المجلس على قائمة كاملة بأسماء هؤلاء الأعضاء، وكان منهم نواب من الحزب الوطنى ومن المستقلين ومن الأحزاب، وحين اكتملت الأسماء وصور التقارير والأحكام، تقابلت مع محمود مسلم فى مكتبى وعرضت عليه الأمر، فرحب بنشر الأسماء وكانت لـ77 نائباً بمجلس الشعب، وقرر لى أنه مستعد لحجب المصدر كما حدث فى قضية الرشاوى السياسية فتملكتنى الغيرة من هذا الموقف الوطنى، فقلت له هذا موضوع سيقلب المجلس والدوائر الانتخابية عليك، ولم أقبل إلا أن تنشر الأسماء بالكامل مع التأكيد على أننى مصدر هذه الوثائق والمستندات.
وبالفعل تم النشر فى جريدة «المصرى اليوم» عن هذه الفضيحة المدوية لتستر المجلس ومكتب اللجنة التشريعية على نواب تم انتخابهم بالتزوير.
وكما توقعت، فبعد النشر ثارت ثائرة النواب، وعلى رأسهم أحمد عز، وتبارى النواب– خاصة نواب الحزب الوطنى– فى كيل الشتائم لمحمود مسلم ولجريدة «المصرى اليوم» ولشخصى، وكنت قد تأخرت عن هذه الجلسة الساخنة لتسلمى باقى مستندات رسمية تؤكد صحة ما تم نشره.
وحين حضرت للمجلس ذهبت إلى غرفة التسجيلات لسماع ما دار فى الجلسة أثناء غيابى للرد.
وعدت حيث قلت إننى أتحمل منفرداً مسؤولية ما تم نشره من أسماء، ورداً على طلبات النواب بإحالتى إلى لجنة القيم، طلبت صراحة بأن يتوجه أى نائب ورد اسمه، ولم يكن صحيحاً أن عضويته باطلة، أن يتوجه فوراً إلى النائب العام وأنا مستعد للتحقيق، ورفضت تماماً موضوع لجنة القيم، وبعد جلسة ساخنة استمرت لأكثر من ثلاث ساعات قرر المجلس أن تجتمع اللجنة العامة للمجلس صباح اليوم التالى لتقرر ماتراه بشأنى وانتهى الأمر بتوجيه اللوم لى لنشر هذه البيانات وليس لعدم صحتها، وأذكر أن الدكتور سرور قال بالجلسة العامة «احمد ربنا دول كانوا عايزين يدبحوك».
ولا شك أن شجاعة محمود مسلم وإقدامه على نشر هذه القضية كانت هى السبب الرئيسى فى تفجيرها.
ثم كانت معركتنا الكبرى– محمود مسلم وأنا– ضد فساد وزير الإسكان الأسبق محمد إبراهيم سليمان.
فمنذ سقوط النظام السابق لم أسمع خبراً أسعدنى مثل خبر القبض على محمد إبراهيم سليمان، الذى اتهمته بتضخم ثروته والتربح واستغلال النفوذ وإهدار المال العام وساندنى فى ذلك بقوة وشجاعة منقطعة النظير، محمود مسلم، الذى نشر المستندات الرسمية الدالة على فساد الوزير السابق واستضافنى فى برنامج «منتهى السياسة» وأيضاً على قناة «المحور»، وفى قناة «الحياة» لشرح الوقائع وعرض المستندات، وكانت شجاعة متمثلة فى أننا كنا نعلم– محمود وأنا– أن إبراهيم سليمان تحت حماية الرئيس السابق مباشرة، فهو رجل الرئيس ورجل الأسرة ورجل كل المسؤولين.. فهل كان من السهل فضح الرجل المقرب من مبارك وأسرته ووزير داخلية؟
لقد عاش معى «مسلم» لحظات الفرح بالحصول على مستندات تدين سليمان، وساعد من خلال علاقاته بالتأكد من بعض المعلومات، وكان دقيقاً ونزيهاً فى النشر، كما عاش معى «مسلم» لحظات الإحباط التى مرت بها هذه الحملة، عندما كان النظام بكل جبروت يحمى سليمان ويتحدى الشعب.. فكان «مسلم» الوحيد الذى يشد من أزرى ويدفع فى الأمل للاستمرار والمقاومة، بالرغم التهديدات والضغوط التى تعرضنا لها سوياً ولم نفقد الأمل فى الله سبحانه وتعالى بعد أن فقدناه فى أجهزة كثيرة ومسؤولين كبار كانوا يحمون سليمان طوعاً أو كرهاً.
لم ترعبنا تهديداته وضغوطه والحكايات والأساطير حول نفوذه ولم تفلح معى محاولات سليمان للصلح كما لم تفلح مع «مسلم» الضغوط بل والإغراءات كى يتوقف عن الحملة.
ولن أنسى لـ«مسلم» خبطاته الصحفية التى أجراها، ولم أكن مشاركاً فيها، لكننى كنت فرحاً به، مثل كشفه تفاصيل عقد مدينتى لأول مرة، وكشفه لتزوير اللجنة التشريعية بمجلس الشعب لأحد اجتماعاتها، ومقالاته ضد فساد «ممدوح إسماعيل» وحادث العبارة وعلاقة «ممدوح إسماعيل» بـ«زكريا عزمى» فى قمة سلطانه ومقالاته ضد حكومة أحمد نظيف وأنس الفقى وتزوير الانتخابات ودفاعه عن المعارضة ونوابها ومهاجمة رموز الفساد بصراحة وجراءة وهى أمور استحق عليها– بحق– الحصول على جائزة نقابة الصحفيين مرتين.. حتى حواراته التى دائماً ما تثير الجدل، مع د. مصطفى الفقى ود. فتحى سرور، الذى باغته مسلم بأسئلة استطاع بها إخراج أسرار حول مواقف مهمة لم تعلن من قبل، بعدها فاجأنا «مسلم» بحوار آخر مع مقدم الرقابة الإدارية المحترم والشجاع «معتصم فتحى»، حكى فيه بالتفاصيل أسماء المستفيدين من إبراهيم سليمان.
هذه شهادة حق عن صحفى بارع ومحترف ومحترم لعب دوراً خطيراً فى كشف الفساد ومواجهة المفسدين، عاشرته فى كثير من المواقف والأزمات وسعدت بمعرفته عن قرب مدافعاً عن الحق بكل قوة ودقة وأمانة ووطنية فى ظروف كانت صعبة ومرعبة.
أتذكر أننا كنا نتحدث بالإشارة تجنباً لمراقبة التليفونات ولعدم إحباط ما ننوى نشره، فكنت أتقدم بالبلاغ إلى النائب العام أو لجهاز الكسب غير المشروع ويكون البلاغ مع «مسلم» قبل أن أتقدم به وعقب خروجى من جهة التحقيق أحادثه تليفونياً وأقول له كلمة واحدة «ديليسبس» ومعناها أن ينشر البلاغ حتى نلحق بالطبعة الأولى أو أن أقول له «ذيع» كإشارة أخرى اتفقنا عليها تعنى الإذاعة فى البرنامج «الحياة اليوم».
ولكننا الآن وبعد أن دخلت الحكومة كلها السجن أقول للصديق المحترم «محمود مسلم» لقد تنفسنا مع نسيم الحرية وذقنا طعم النصر فانتهى عصر «ديليسبس» وبقى تقديرى واحترامى واعتزازى لصحفى جرىء ومحترم وشريف اسمه محمـــود محمـــد مســــلم.