صبيحة أحد الأيام التي شهدت اشتباكات طاحنة في ميدان التحرير بين متظاهرين وقوات الشرطة في أواخر 2011، كانت يارا سلام تتجول في ميدان التحرير هي وإحدى زميلاتها بينما تحمل مواد إسعاف أولية وزجاجة ماء.
وبانعدام حيلة بائن، كانت تحاول مساعدة المصابين والمتضررين من بقايا الكر والفر طوال الليل.
بدت هيئتها الطفولية، وركاكة تعاملها مع الشنطة البلاستيكية التي تحملها والتي تضم مواد طبية، أصدق ألف مرة من أي طبيب محترف يداوي جرحى في ميدان معركة.
اقتربتُ منها في هدوء، فظنت أنني أريد منها مساعدة طبيةً ما، فشرعت في مساعدتي وعلى ملامحها أمارات الإرهاق والتعب، ولما تبينت ملامحي ابتسمت، إذ إننا كنا زملاء في عمل واحد في ذلك الوقت.
سلمت عليها ووقفت معها قليلا ثم انطلقتُ وانطلقت هي في البحث عن جريح ما كي تداويه (لا أعرف كيف!) بشنطتها البلاستيكية تلك.
دوما كان ظهورها بريئًا شفافًا..
أحيانا تستعير مكتبي كي تنجز شيئا ما، في زحمة العمل، ثم تترك لي قصاصة اعتذار مرحة عن استخدام «مكتبي» و«جهازي» في غيابي، بكل ما أوتيت من دماثة ولطف أخلاق.
لماذا إذًا يحتجزون «يارا» في سجونهم؟
السؤال يحتاج لإجابة أعمق من تلك التي تعتقدها.
(2)
يتداول المستخدمون على وسائل التواصل الاجتماعي صورًا شخصية ليارا، ويسألون: كيف لكل هذه البراءة والجمال أن يحتجزا في سجن؟ وما هو السبب الوجيه لحبس مثل تلك الفتاة الرقيقة؟
القانون لم يستثن اللطفاء من المحاكمات، ولم يضع بنودًا خاصة للأشخاص المحبوسين ذوي الإطلالة البريئة.. كل هذا مفهوم. لكن الأمر في حالة يارا يتخطى البديهيات القانونية لصالح البديهيات الإنسانية.
فإذا كنا نؤمن أن قشة «خالد سعيد» قصمت ظهر نظام مبارك، فهذا لأن خالد كان يشبهنا، نحن شباب الطبقة الوسطى الذين كان يحمينا مظهرنا المتعلم وهندامنا النظيف من أن نتلقى الشتائم والصفعات، ناهيك عن التعذيب في سلخانات الداخلية.
فما بالنا وقد تم قتل خالد بكل هذه الوحشية؟ لقد أحسسنا أن الخطر يقترب، وأننا لسنا بمنأى عن شيء، وأن جدار الحماية السابق لن يحول بين جهاز الشرطة وبيننا.
ومن هنا-ربما- كانت النفرةُ، فالثورة!
القضية في «صورة» يارا- إذا ما مددنا الخط على استقامته- لن تصبح صورة أخرى تهدد النظام الحالي مثلما فعلت صورتا خالد السعيد (قبل التعذيب والقتل، وبعده).
فصورة يارا بكل ما تنطوي عليه من براءة حقيقية، تتجاوز الحقيقة القانونية، أن يارا ربما تخطئ، ربما تسرق أو تقتل فهي ليست منزهة عن شيء، لكن احتجاز يارا على خلفية قضية سياسية يمعن من مفارقة قبح الأمر الواقع!
فإذا كان الخلاف السياسي قابلا للأخذ والرد، وإذا كانت القوانين والدساتير قد سويت على مقاس بعينه، فلماذا لا يجد النظام مخرجًا ليارا ورفاقها، بدلًا من النزيف الذي لا يتوقف من رصيده كنظام يطرح نفسه على أنه ليس امتدادًا لمبارك ولا لغيره؟ ويجتهد في نفي تهمة «الديكتاتورية» عن نفسه في كل محفل.
(3)
تكتسب القوانين مشروعيتها من عدالتها واتساقها مع الظرف والتقدير والحس المجتمعي، فضلا عن منطقيتها وموضوعيتها.. وتنسحب عنها المشروعية بمقدار خفوت هذه المقومات.
وفي حالة يارا ورفاقها لا تبدو هذه العوامل حاضرةً على الإطلاق.
فهل يعقل أن يتم حبس أول مجموعة تتظاهر ضد قانون التظاهر حديث الولادة/ التفصيل آنذاك؟
هل هذا القانون سماوي ومقدس، وجزاء من يعترض عليه الحبس الفوري؟ وهل مصر الرازحة تحت وطأة مناخ سياسي عاصف منذ 4 سنوات، لا تتسع لاحتجاج على قانون ما وترفض الاختلاف معه إلى هذا الحد؟
أين إذا إدراك السياق الاجتماعي والسياسي والثقافي للأمور؟
طال الجدل والأخذ والرد حول الإفراج عن يارا ورفاقها، ولما طال اتخذ منحى جديدًا.
صورة يارا في مقابل القانون!
الصورة بكل ما تنطوي عليه من جمال وبراءة وقيمة إنسانية.. في مقابل القانون بكل ما يعنيه- في هذه الحالة- من تحجر وجمود وغشومة.
وبمعان إنسانية مجردة.. لا تتمكن الأنظمة السياسية، أيا كان مقدار تمترسها بالتشريعات والدساتير، أن تصمد في مواجهة الحقائق الإنسانية الدامغة.
صورة يارا، في كل مرة يتم تداولها، تنهش في شرعية هذا النظام بأكثر مما يعتقد..
والنظام الذي يكافح لأجل إثبات دعائمه، في رأيي، في غنى حقيقي عن «حسبنة» عابرة من سجين مظلوم، قد تعصف به فلا تبقي ولا تذر.