أنا لا أعرف يا أخى.. ما الذى يخيفك بهذه الصورة من البورص؟!. ما إن تراه واقفاً على الشباك.. حتى تقف مذعوراً.. وتصرخ.
- الحق.. بورص.!. بورص.!.
هل سمعتم أن بورصاً قتل إنساناً قبل ذلك؟!. إن طوله فى أكبر الحالات لا يزيد على طول كف اليد.. لم يثبت عليه فى يوم من الأيام أنه كان يعض أو يقرص أو يمتص الدماء.. فلماذا كل هذا الرعب الذى ينتابك حينما تراه؟.
قال صديقى.. وهو يتفادى النظر إليه وقد أغمض عينيه تماماً.. شكله وحش قوى.. بشع.
- مسألة الشكل دى يا صديقى مسألة نسبية.. فإذا كانت بالشكل بأة.. لحدفت هذا الشبشب الذى فى يدى نحوك أنت وليس نحو البورص الواقف على الشباك.. أنت مش دريان بسحنتك ولاّ إيه؟.
لماذا نخاف من الأبراص.. هل لأنها من سلالة تلك الكائنات العملاقة الديناصورية التى عاشت منذ ملايين السنين على كوكبنا.. وهل انتقل خوف أجدادنا الأوائل إلينا بعد ملايين السنين فورثناه.. أباً عن جد؟!. ولكنها انقرضت خلاص.. فهل يظل الخوف ساكناً فى القلوب بعد انقراض سبب الخوف نفسه.
قال صديقى صارخاً.. وحياة أبوك مش وقت فلسفة.. اضربه بالشبشب بأة.. وسألته بهدوء: سأضربه.. حاضر.. ولكن ماذا فعل؟!. لا يوجد عقاب بلا جريمة وإذا كانت المسألة أن شكله مش عاجبك.. فهذا قانون خطير فشعبنا مثلاً مش عاجبه أى حاجة.. فهل نرفع شباشبنا وننهال على كل ما لا يعجبنا شكله.
ولم يطق صاحبى صبراً فأخذ منى الشبشب.. وانهال عليه بكل قوته.. آه لو كان معى كاميرا لصورت لكم تلك النظرة الوحشية البدائية التى كانت فى عينيه.. وذلك الإصرار على القتل وهو يهوى بذراعيه المفتولتين وبكل قواه.. على ذلك البورص المسكين الذى جاء إلى هنا بمحض الصدفة.. لا يلوى على شىء.. وليس لديه أى نية شر تجاه أى شىء.. ولا يطمع سوى فى هاموشة معدية.. أو فراشة صغيرة.. ربما يلتقطها فى الطريق.. وليس أكثر من هذا.. فــإذا بهذا الكائن المفترس (صديقى) يهاجمه بتلك الشراسة المرعبة.. دون أن يرتكب أى ذنب.. طبعاً أنا أكلمكم مـن وجهة نظر بورص.. وسقط البورص من أول ضربة على الأرض.. وقد انقطع ذيله.. ورغم أنه مات.. إلا أن ذيله كان لايزال يلعب.. وصرخ صديقى.. شوف ابن الـ..... ده لسه ديله بيلعب!!. وجرى مبتعداً مشمئزاً وهو يصرخ: اضرب الديل.. اضرب الديل.. قلت له بهدوء: يا أخى.. هل سمعت أن ذيلاً قتل إنساناً.. ماذا يخيفك من ذيل يلعب.. لقد قتلت البورص.. وفعلت ما أردت.. ماذا يضايقك من ذيله.
وشردت بعيداً.. كان الموقف الذى حدث الآن أمامى.. مغايراً تماماً لما كان يحدث منذ ملايين السنين.. كان جد هذا البورص الأول هائلاً ضخماً عملاقاً يمشى متباهياً فى الأدغال باحثاً عن أى تافه من بنى البشر أمثال صديقى هذا الذى لا يفرق فى شىء عن جده الأول.. ولما وجده أمامه.. صرخ جدنا نفس الصرخة تقريباً التى صرخها صديقى.. وأخذ يجرى ويصرخ ويلطم على وجهه والبورص الخرافى الأول يفتح فمه.. معتبراً إياه.. مجرد هاموشة شاردة.. ورفع ذيله لكى يخبطه به خبطة تخرسه شوية حتى يتخلص من صوته المزعج فكان ذيله أشبه بقطار يتحرك بسرعة مهولة متوجهاً نحو جدنا الأول.. الذى أخذ يصرخ.. ويصرخ.. وأفقت من شرودى على صديقى الذى التقط أنفاسه أخيراً بعد أن خمدت تماماً حركة الذيل.
ودخلت زوجتى.. باسمة وهى تتساءل ببراءة.
- فيه إيه صوتكو جايب آخر الشارع.. انتو بتتخانقوا ولاّ إيه؟.
قلت لها بهدوء.
- لا.. بس أصلنا لقينا بورص.
وصرخت زوجتنا صرخة مدوية.
- بورص!!.
وأجبتها بهدوء أكثر.
- آه بورص.
ويبدو أن هدوئى ضايقها.. وزاد من فزعها الذى بلغ ذروته.. فصرخت مرة أخرى.
- وموتوه ولا لأ؟.
قلت لها مستنكراً فى ضيق.
- ونموته ليه؟!.
قالت بحدة لا تحتمل الهزار.
- اسمع.. أنا ما بهزرش فى الحاجات دى.. موتوه ولا لأ؟.
قلت لها وأنا أشير نحو صديقى.
- حجازى ضربه بالشبشب.
قالت وهى مشمئزة جداً.
- ومات!!.. يع.
قلت لها فى غيظ.
- هو إحنا ما نموتوش تصرخى.. نموته تقرفى.. يعنى هوه جاى ينكد علينـا وخلاص.. نفسى أعرف البورص عامل لكم الرعب ده ليه بس.. حد يقنعنى.
- ما شفتش منظره عامل إزاى؟.
قلت فى نفاد صبر.. وقد علا صوتى بأه.. وفقدت هدوئى.
- ده مش مبرر يا إخوانا.. يعنى أنا أقعد طول ما أنا ماشى أقتل فى أبراص علشان شكلها مش عاجبنى.
قالت زوجتنا شاكية لصديقى (قاتل البورص) الذى جلس متباهياً بفعلته.
- بذمتك ده منطق اللى بيتكلم بيه ده.. عمرك شفت واحد عاقل بيدافع عن بورص.. ده إحنا مرة داخلين البيت.. لقينا بورص واقف بره فوق الباب أنا والعيال وقفنا نصرخ.. ونقول له اضربه.. موته.. عاوزين نخش البيت.. اوعى يجرى منك لأحسن يدخل جوه.. وهوه واقف يبص لنا كإننا مجانين.. وفى الآخر.. مسك عصايا وزقه بيها كأنه بيطبطب عليه.. راح البورص جارى طبعاً.
أخذت أتأملها وهى تحكى عن تخاذلى وقلة حيلتى أمام بورص غاشم حال بيننا وبين دخول الكهف الذى نسكن فيه.. وعدت بذاكرتى بعيداً.. بعيداً لملايين السنين فرأيت جدتها التى عاشت على هذه الأرض فيما قبل التاريخ منكوشة الشعر محرضة على العدوان.. وهى تدفع جدى الغلبان أن ينقض بحربته الهزيلة على ديناصور يهاجم قبيلتها.. وتحرك بداخله نوازع الشر لكى يقتل الديناصور ولكى تهيجه أكثر وتثير مشاعره كرجل.. قالت له إن الديناصور كان بيعاكسها.. تلك الحربة الهزيلة التى ما إن غرسها جدى فى صدر الديناصور حتى اعتقد الديناصور أنها (خلة) يقدمها له جدنا ليسلك بها أسنانه فتلقفها بفمه وأخذ يقرقشها باستمتاع كأنها عود باتون ساليه.
ولما أدرك جدنا أنه فقد سلاحه.. فى معركة غير متكافئة مهما تعالت صيحات تلك المرأة النكدية المجنونة التى تطالبه بالاستمرار فى القتال.. أدرك أنه أمام خيارين لا ثالث لهما.. إما أن يستمر فى المعركة وينقرض النوع الإنسانى كله بعد أن يبتلعه الديناصور.. وإما أن يلطشها قلم على وشها ويقول لها اخرسى بأه فى يومك ده.
ولا شك أن جدى فضل الخيار الثانى.. والدليل أن الديناصورات هى التى انقرضت وليس جدى.. وتقول الحفريات إنه مات بعد ذلك ميتة طبيعية أشك كثيراً فى تقرير الطب الشرعى بشأنها.. فالثابت أنه لم يقتله ديناصور ولا بورص خرافى ولا سحلية عملاقة.. وإنما مات كما أعتقد بارتفاع فى السكر وفى ضغط الدم.. وأصابع الاتهام تشير نحو تلك المرأة منكوشة الشعر التى كانت تقيم معه بالكهف المذكور ووجعت دماغه بثرثرتها التى لا تنقطع.. وشكواها التى لا تنتهى.. وتحريضها الدائم له على القتل وسفك الدماء بمناسبة وغير مناسبة.. وتؤكد النقوش القديمة التى على الأحجار.. أن آخر كلمة قالها جدى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة.. بانادول إكسترا.
* تليفونى زى ما هوه.. ما اتغيرش