نواصل هذا الأسبوع الحديث الذى بدأناه منذ أسبوعين لنقول إنه رغم الخلاف بين المذاهب والمدارس المختلفة التى تعرضت لتعريف العلم، وما الذى يفرق بينه وبين الأشكال الأخرى للمعرفة، رغم ذلك الخلاف فإننا إذا ما أخذنا بالقاسم المشترك الذى يعتمد عليه المهتمون بالتصنيفات المعاصرة للعلوم لوجدنا أن العلم لديهم هو معرفة تتسم بالدقة والموضوعية والنسقية والمنهجية، مع ملاحظة أن المنهج ـ وليس الموضوع ـ هو الذى يحدد انتماء معرفة ما إلى دائرة العلم أوعدم انتمائها إليه، فلا توجد موضوعات معينة توصف فى حد ذاتها بأنها علمية وأخرى غيرعلمية، ولكن هناك تناول علمى أوغيرعلمى لنفس الموضوع الواحد، والمنهج المستخدم هو الذى يميز بين النوعين من التناول، والمناهج العامة التى يعتمد عليها البحث العلمى لا تخرج عن منهجين أساسين لهما صور وتجليات شتى تتلاءم كل منها مع طبيعة العلم الذى يستخدمها. هذان المنهجان هما: الاستنباط حيث يبدأ العالم فى مجال ما بمسلمات معينة ثم يستخلص منها ما يلزم عنها لزوما منطقيا، هذه المسلمات قد تكون مستمدة أحيانا من العقل كما فى المنطق والرياضيات، وأحيانا أخرى من نتائج علوم سابقة ثبت بشكل أو بآخر صحتها، وهنا نشير إلى أن الإشكالية التى كثيرا ما يثيرها المشككون فى كون العلوم الدينية علوما حقيقية (رغم كونها علوما استنباطية) هى أن جانبا من المسلمات التى تبدأ منها مستمد من الإيمان بديانة معينة، فى حين أن الحقيقة العلميةـ بحكم موضوعيتهاـ ينبغى أن تكون واحدة للكافة أيا ما كانت دياناتهم!)
أما المنهج الثانى فهو الاستقراء حيث يقوم الباحث بفحص أمثلة معينة لظاهرة ما، لكى يستكشف العلة من ورائها وذلك من خلال افتراضه لفرضية معينة تفسرها ثم يقوم باختبار فرضيته، وهذا المنهج هو الذى يغلب استخدامه فى العلوم الطبيعية، وهى تلك العلوم التى تدرس الجوانب المختلفة للعالم الطبيعى بما فى ذلك الإنسان باعتباره جزءا من الطبيعة فى جانب منه (كعلم الفيسيولوجيا مثلا)، أما الإنسان باعتباره كائنا متميزا عن الموجودات الطبيعية، فهذا هو مجال العلوم الإنسانية التى تجمع فى مناهجها بين الاستنباط والاستقراء والتى تدرس الإنسان باعتباره فردا وباعتباره عضوا فى جماعة، وقد أضافت مدرسة الوضعية المنطقية إلى السمات السابقة معيارا رآه أنصارها حاسما فى التمييز بين العلم واللاعلم، ذلك المعيار هو القابلية لاختبار الصدق، فما يقبل اختبار الصدق عندهم هو وحده الجدير بالوصف بأنه علم، وهذا المعيار هو ما تصدى له كارل بوبر الذى قال بأننا لن نستطيع أن نتحقق من صدق نظرية أو فرضية مهما كانت الشواهد التى تؤيدها، فالشواهد المؤيدة من شأنها فقط أن تعزز من اعتقادنا بصحتها، فى حين أن شاهدا واحدا فقط يكذبها كاف لنسف هذا الاعتقاد، وهكذا فإن العلم عنده هو ما يقبل التكذيب!! وعلى سبيل المثال فمهما رأينا من بجع أبيض لن نقطع بصحة المقولة التى تقول بأن البجع أبيض وإن كان اعتقادنا بصحتها يتعزز فى كل مرة، فى حين أن بجعة واحدة غير بيضاء سوف تنسف هذه المقولة تماما!! وعلينا حينئذ أن نعيد النظر فيها وهذا هو الكشف العلمى فى رأيه، ومن ثم فإن مقولة: «إن البجع أبيض» علمية لا لأنها تقبل اختبار الصدق ولكن لأنها تقبل التكذيب. ومع هذا فإن ما قال به بوبر تعرض بدوره للنقد من فلاسفة العلم اللاحقين.. وللحديث بقية.