x

رفعت السعيد جينات الغضب الشعبي.. كيف تتوالد في مصر؟ رفعت السعيد الجمعة 12-06-2015 21:06


المصرى صبور بطبيعة تكوينه تاريخيا. كان ينتظر الفيضان بلا ملل. ثم يلقى البذور وينتظر الحصاد بلا ملل. واعتاد المصرى على اجتلاب لقمة الخبز للأطفال عبر عمل شاق، فكان يعمل بلا ملل. وحتى في فترة انتظار الفيضان كان يبنى عبر مشقة شديدة أهرامات ومعابد تضمن للفرعون حياة هانئة طوال حياته وبعد مماته. وكان الكهنة يحذرون الجميع «أن من يثير غضب الفرعون لن يكون له قبر وترمى جثته في الماء فيظل معذبا حتى بعد الممات». ولكن ومع تصاعد الظلم الاجتماعى انفجر الغضب المصرى، وثمة رسالة موجهة من كبير الكهنة إلى فرعون تقول «التهب الغضب في كل أنحاء البلاد، الغاضبون سلبوا أموال الأغنياء، وامتنع الفلاحون عن زراعة الأرض رغم الفيضان لفقدان الأمن» (بيربن- تاريخ النظم والقانون الخاص في مصر) وينقل سليم حسن عن إحدى البرديات «الذين كانوا يرتدون الكتان الجميل أصبحوا في خرق بالية» وطرد الحكام وأصبحوا ينامون في المخازن، وألقيت مجموعات القوانين في الشارع لتدوسها الأقدام» (الجزء الأول- ص 404).

ويفسر د.شفيق شحاتة في كتابه «تاريخ القانون الخاص» (ص67) أسباب الثورة فيقول «الحلقة التي أحاطت بالفرعون تشكلت منها طبقة استولت على كل مصادر الثروة، وباختصار ضعف الفرعون وتسيد الأشراف»، ونقرأ نقشا فرعونيا يصفهم بأنهم «يخدعون الآلهة، يذبحون الإوز كقرابين ويزعمون أنها ثيران». وتمضى هذه الجينات لنراها تتفجر مرات عديدة في الزمن المملوكى، ونستعين بعين مصر الساهرة عبدالرحمن الجبرتى «نقص النيل نقصا فاحشا وازدحم الناس لشراء الغلال، فمنع الغنى من شراء ما يزيد على الإردب والنصف، والفقير لا ينال إلا ويبة ويمنعون الكيل بعد ساعتين، وكان كبار رجال الدولة والأغنياء يأخذون المراكب المحملة بالغلال قهرا من أصحابها ويخزنونها لأنفسهم، وقل الخبز في الأسواق.

وطلب الحاكم الفعلى إبراهيم بك إقامة صلاة الاستسقاء لكن المشايخ أكدوا أن شرط قبول صلاة الاستسقاء هو رفع المظالم. فقال إبراهيم بك بلا مبالاة «الصلاة نعم، أما رفع المظالم فلا أقدر عليه»، فصاح المشايخ مهددين «إذن سنهاجر من مصر جميعا»، فرد الحاكم الماكر «وأنا معكم أهاجر» ثم «وذات يوم ركب حسين بك بجنوده إلى الحسينية فداهم منزل رئيس دراويش الشيخ البيومى ونهب كل ما فيه، حتى مصاغ النساء والفراش» فثار الغضب الشعبى «ففى صبحها ثارت جماعة من الأهالى وحضروا إلى الأزهر ومعهم طبول، والتف حولهم العامة وبأيديهم نبابيت وأغلقوا الحوانيت وصاح الشيخ الدرديرى غدا نجمع الأهالى من الحارات وبولاق ومصر القديمة وأركب معكم وننهب بيوتهم كما ينهبون بيوتنا ونموت شهداء أو ينصرنا الله عليهم. وخشى إبراهيم بك من انتشار الفتنة فأحضر حسين بك لمحاسبته أمام المشايخ وعنفه قائلا: عيب يا حسين بك أن تنهب أموال رئيس الدراويش» فانفجر حسين بك قائلا «كلنا نهابون، أنت يا بيك تنهب ومراد بك ينهب وأنا أنهب». وانفض المجلس على ذلك، واستمرت المناداة من مآذن الأزهر وإغلاق المحلات ورفع القمح والبضائع من الأسواق وزاد رعب المماليك وامتنعوا عن الخروج من بيوتهم، ثم أتى سليم أغا مستحفظان إلى الشيخ الدرديرى واسترضوه ووعدوه بالكف عن المظالم ثم..

وكما قال الجبرتى متعجبا «وبردت المسألة» لكن العامة ظلوا على تمردهم رغم اتفاق الشيخ الدرديرى، وظهرت قيادة جديدة أكثر شعبية وأكثر صلابة منها «الشيخ عمر مكرم وحجاج الخضرى زعيم فتوات بولاق وابن شمعة شيخ الجزارين». واشتعلت ثورة وصفها الجبرتى «فركب المشايخ وتجمع العامة والجعيدية والوجاقلية وأهالى العطوف والحسينية والقرافة والحطابة والصليبة والرميلة ومعهم الطبول والبيارق والأسلحة، وحصل في تلك الليلة من ضرب النار ما هو عجيب من المستغربات وصار الضرب على القلعة بالمقاليع والبنب والصواريخ، وبنى حجاج الخضرى ورجاله حائطا وبوابة على الرميلة وكان الفقير يستدين ويبيع ملبوسه ويشترى سلاحا». ونجح المصريون.

ثم وفى عهد محمد على وعندما حصلت ما أسماها الجبرتى «شحة» في الصابون سنة 1231 هـ وانعدم وجوده في الأسواق. فتجار وكالة الصابون زادوا في ثمنه زيادة كبيرة، وكلما أمر كتخدا بسعر يدعون الخسارة ويبالغون في التشكى، فحاسبهم وزادهم خمسة أنصاف عن كل رطل ثم أرسل شخصا من طرفه لخان الصابون للإشراف على البيع لكن الأغنياء أرسلوا أتباعهم ليحاصروا خان الصابون ويمنعوا الناس من الدخول ويشتروا كل الصابون ثم يبيعوا الرطل بقرشين وقد اشتروه بقرش. وذات يوم طلب أحد المشايخ مقابلة الباشا ودخل عليه وقد أخفى وجهه وسأله الباشا فقال لى ثلاثة أيام لم أغسل وجهى بسبب شحة الصابون، فهاج محمد على واستدعى الكتخدا الذي قال «يا مولاى امنع الأكابر من الاحتكار والاتجار تكثر الأرزاق وتنخفض الأسعار».

ونمضى لنتجول في تراث الغضب الشعبى المصرى لنكتشف أن جينات الغضب تتواجد فتتكاثر، إنها ذات الأسباب وذات الظالمين وذات المظلومين.. فنستشعر الحذر.. ويبقى أن أهدى هذه الحكايات إلى ذوى الشأن لعلهم يتعظون. وأقول لهم إن البدء في خطوات أولية للعدل الاجتماعى يحمى النظام ويسانده ويمنحه قدرة التواصل.. وهذا ما نريد.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية