«يا زوجتى،،،
يا نحلَتى ذات القلب الذهبى،،،
يا نحلَتى ذات العينين الأكثر عذوبةً من العسل،،،
لماذا كتبتُ لكِ أنهم يطلبون موتى،،،؟!
القضيةُ لاتزالُ في بدايتها،،،
لا يُمكنُ اقتلاع رأس إنسان كما تُقتلعُ رأسُ ثمرة الّلفت،،،
لا تهتمّى ما هي إلا احتمالاتٌ إنسانيةٌ،،،
ولا تَنْسى أن زوجة السجين ينبغى ألا تأخذها أفكارٌ سوداء».
من قصيدة كتبها الشاعر والروائى والمسرحى التركى الكبير ناظم حكمت [ 1902- 1963 م ] من سجونه التي تنقل فيها بين مدن تركيا أكثر من اثنى عشر عاماً حتى تم نفيه إلى موسكو، وهناك لقى ربه وعثر على مدفن في دار الغربة عن وطنه.
كل إنسانٍ منا تسكُنُه روحُ شاعر، هذه الرُّوح تضمنُ له أن يكون إنساناً، وبمقدارها يكونُ قدرُ الإنسان فيه.
تتجلَّى شاعريتُك في إحساسِك بمعناك، في إحساسِك بمعنى زمانك وإيامك، بمعنى مكانك وأقدارِك، في إحساسِك بذاتك وما يتقلبُ عليها من أحوال ما بين محنة ونعمة وما بين عُسر ويُسر.
استمتعتُ هذا الصباح الرائع- الجمعة 12 يونيو- برسالة الثائر أحمد دومة، أرسل بها من أنشط مؤسسة سياسية في مصر منذ الأزل، أرسل بها من مهد المستقبل، أرسل بها من وراء أسوار السجون، لتنشرها «المصرى اليوم».
رأيتُه- من قبل- مئات المرات ثائراً، مُزعجاً، عالى الصوت، طويل العُنق، تنتفض عروقُ رقبته عندما يتكلم، ولكننى- صباح اليوم- قرأتُه وقد تجلَّى شاعراً وناثراً، هادئ الكلمات، معتدل الطباع، رائق المزاج، في حكمة يسبقُ بها سنين عُمره، وفى رزانة تكشفُ عن نفس شُجاعة تتكيفُ مع قيود السجن وهى تحتفظٌ بمذاق الحرية، تدفعُ ثمن مواقفها وهى على العهد في إخلاصها للقضية، في كلمات عميقة موحية تأخذُكَ إلى قلب السياسة المصرية- بالمعنى الفلسفى- فالسياسةُ في جوهرها يبقى جُزءٌ كبيرٌ من فعالياتها يقبعُ هُناك، في أقبية السجون، سياسة تتطور بقدر ما تفكر، وتتطور بقدر ما تنجح في امتحان الإرادة، حين يعجز السجنُ عن كسر النفس العزيزة، وحينما تعجز الزنزانةُ الضيقةُ الكئيبة عن أن تكسر أجنحة الأحلام المرفرفة الطليقة.
بصراحةٍ شديدةٍ، تلذَّذتُ واستنعتُ بالرسالة أو بالمقالة أو بهذه القطعة الجميلة من أدب السجون، قرأتُها عدة مرات، حتى نشطتُ وذهبتُ أستعيدُ قراءة شاعر تركيا الكبير الذي ترك بصمته على تطور القصيدة العربية- شعر الحداثة- من خلال شعراء كبار تأثروا به من عبدالوهاب البياتى إلى بلند الحيدرى وحتى نزار قبانى نفسه.
«فى السجن، أنت أسيرٌ لهواجسك وانتظارك،،، ووحدها الأحلام تخلصك».
«فى السجن، يصغر عالمُك ويتضاءل حتى يمكن قياسه بالشبر،،، وحده براحُ ذاتِك يستوعبُك».
«فى السجن، أنت أكثر قابلية لتصديق نظرية المؤامرة،،، ولا نجاة سوى بالتجاهُل».
وفى الختام يكتب أحمد دومة إلى زوجته:
«حبيبتى، سيأتى يومٌ تُصبِحُ فيه قُبُلاتُنا المسروقة، من خلف أعين السجان، أكبر دليل، على أننا سنبقى، وسنبقى».