الجهل وطن.. والوعى منفى.
هذه واحدة من رصاصات التهكم الفلسفى التى أطلقها إميل سيوران فى وجه المنطق والشعارات المنمقة التى تخفى خراب العالم المعاصر.
سيوران الذى تمر هذا الأسبوع 20 سنة على رحيله من الحياة، هو رائد «الكليب الفلسفى»، مُنَظِّر الخواء، مقاول هدم المعمار التقليدى للفكر الغربى، مهندس تفكيك السرديات الكبرى، فهو يكتب تأملاته فى عبارات قصيرة منفصلة، كأنها نكات لاذعة، أو أمثال فلسفية، للتندر على عبثية حياة غير منطقية بطبعها.
هذا المقال الغامض يشبه الحياة تماما، له بداية، وله نهاية، لكن المؤكد أننا جميعا سنختلف على معناه.. سنختلف على ما هو أخطر: هل له معنى أصلاً؟
ذات مرة، عندما كان سيوران فى صباه، أراد أن يحتج على الحياة التعيسة التى تخنقه فألقى بجسده على الأريكة وصاح فى وجه أمه باكيا: لم أعد أحتمل هذه الحياة. نظرت الأم ناحيته بازدراء وقالت له: لو كنت أعرف ذلك لأجهضتك، فقد أرهقنى حملك دون جدوى.
لم ينس سيوران ذلك الموقف أبداً وكتب عنه فى مقدمة كتابه «ورطة أن تولد» قائلا: لقد أصابتنى كلمات أمى بهلع ميتافيزيقى وإهانة وجودية، ألهمتنى بتأليف هذا الكتاب الذى يمكنكم فتحه وقراءته من أى صفحة بدون ترتيب، بل لا يهم أن تقرأوه كله!
هكذا يصل سيوران إلى ذروة العبث والتفكيك والعدمية، فكل شىء عنده بلا أهمية، لذلك يتعجب عندما يبكى الناس على الموتى، متسائلا باستنكار: الموت مصيرنا المحتوم، فلماذا إذن كل هذا النواح؟ ثم يقفز من هذا الكلام الذى يتضمن قدراً من المنطق إلى سؤال أكثر عبثا: إذا كان الموت مصيرنا فما قيمة أن نولد أصلاً؟ يا سادة يا عقلاء، من العبث أن نولد ومن العبث أن نموت، لهذا ارتكبت فى حياتى كل الموبقات والجرائم، باستثناء أن أكون أباً، لعل أولادى الذين لم يولدوا يمتنون لما قدمته من أجل سعادتهم، إن الميلاد (وليس الموت) هو النكبة الكبرى التى تجلب لنا كل اللعنات الأخرى!
لا أحب أفكار سيوران، وأظنه كذلك لا يحب أفكاره ولا يحب أى شىء آخر، فالحب عنده خدعة احتيالية، والأفكار مجرد وهم يزين به الناس حياتهم الخاوية من المعنى، إنه يعتبر نفسه منتجاً للشطحات واللعنات، قرر أن ينتقم من الحياة بالوشاية ضدها، والتحامل عليها فى اعترافات كيدية، فهو الذى يقول: كل رغبة تبعث فى داخلى رغبة مضادة، بحيث (مهما فعلت) لا أجد قيمة إلا للأشياء التى لم أفعلها.
يكتب سيوران ثم يوحى لك أنه يحتقر الكتابة، ينصحك ألا تقرأ من أجل فهم الآخر، بل من أجل فهم الذات، تعلق بأفكار هتلر ونيتشه وشوبنهاور، ثم قتل الوطن وتخلص من جثته، وعاش يردد وصيته المريرة: لا يسكن المرء بلاداً، بل يسكن لغة، ذلك هو الوطن ولا شىء غيره، ثم خاف أن يصدق أحد كلماته ويعتبرها نوعاً من الحكمة، فيطلق دعابته السوداء: تذكروا جيداً أن نهاية الإنسانية سوف تأتى عندما يصير الجميع مثلى، فلا تبحثوا طويلاً عن الحكمة فى كلماتى، إنها مجرد آهات للشكوى والاحتجاج، لا تقرأونى.. اقرأوا أنفسكم.
فى مراهقتى كنت مسحورا بموجات الهيبز، وعندما شاهدت فيلم «شعر» لميلوش فورمان لم أنس أبداً مشهد البداية حيث نسمع صوت الديكة فى غبش الفجر وسط المزارع الفسيحة فى الجنوب الأمريكى، ثم نشاهد الأب الريفى يصطحب ابنه إلى المحطة ليسافر إلى نيويورك كمجند فى حرب فيتنام، فى الطريق يتلو الأب على ابنه الكثير من النصائح والتعليمات: هل أخذت كل ما تحتاجه؟ هل معك مال كاف؟... ثم يضيف «أم النصائح» التى شغلتنى حتى هذا اليوم: لا تقلق.. الأذكياء فقط هم الذين يقلقون، لا تقرأ.. فإن الله يرعى الجاهلين.
للأسف لم أعمل بالنصيحة، قرأت فشقيت، خسرت نعيم الجهل، وعشت عمرى منفياً فى الوطن وفى الكلمات معاً.
استدراك:
نسيت أن أخبركم بفشل سيوران فى الموت أيضا، ألم نتذكره تواً، ونحكى عنه فى الحياة بعد 20 عاما من استراحته الإجبارية؟!