هل كانت الولايات المتحدة وهي تغزو العراق مع حلفاء لها في 2003 تخطط بالفعل لإزاحة نظام صدام حسين وبناء دولة مدنية عصرية على نمط إداري وسياسي غربي يمكن لبغداد أن تحكمها بكفاءة؟
هل كانت الولايات المتحدة جادة حقا في تفادي فشلها السابق في تحقيق هذه الأهداف في فيتنام وأفغانستان والصومال، أم أنها كانت منذ البداية تسعى نحو فشل جديد سيؤدي بالعراق إلى مصيره الذي تتنازعه حركات التمرد، وتحكمه إدارة طائفية تفتقر إلى ما هو أقل من الحد الأدنى من الكفاءة، ويسوده الفساد، ليصير نسخة جديدة من أفغانستان؟
ما أعتقده هو أن الولايات المتحدة لم تفشل في تطبيق استراتيجيتها في هذه الدول، وإنما أنها كانت تتبع استراتيجية خاطئة من البداية.
وهي ذاتها الاستراتيجية الخاطئة التي تتبعها واشنطن – أو تحاول اتباعها – في دول الربيع العربي التي سقطت في النزاعات الأهلية، أو تلك التي ما زالت تقف على حافتها.
وقد اعتمد الجنرال ديفيد بتريوس، الذي قاد قوات الحلفاء في العراق ومن قبله في أفغانستان، فيما كتبه في «الدليل الميداني لقوات الجيش الأمريكي لمكافحة التمرد – 2006» خطة للتصدي للجماعات الإسلامية المسلحة التي ظهرت أو ستظهر بالضرورة أثناء أي محاولة لبناء دولة مدنية عصرية.
وهذه الخطة تقوم على ثلاث مراحل هي «طهر، تمسك ثم اشرع في البناء»: اهزم المسلحين أولا واطردهم خارج المنطقة، وحافظ على سيطرتك على الأرض في مواجهة أي محاولة للمسلحين للعودة إلى اختراقها، ثم ابدأ في بناء المؤسسات المحلية لمساعدة السكان على العودة إلى الحياة الطبيعية.
وكان من الممكن أن تنجح هذه الخطة نجاحا ساحقا، لولا أن الجيش الأمريكي الذي قد يجيد هزيمة المسلحين وردعهم عن العودة، بالتأكيد لا يجيد البناء، بل إن استراتيجيته الأصلية التي جاء بها لا تتضمن البناء أصلا، وهو ما قصدته في البداية عندما قلت إن الاستراتيجية نفسها معيبة، فهي معيبة لأنها تتضمن هدم قدرات المتمردين والجماعات المسلحة، ولا تتضمن بناء قدرات المجتمعات المحلية التي تمكنها من الحفاظ على تماسكها بعد انسحاب القوات الأجنبية.
وقدم الكاتب والمحلل السياسي الأمريكي ماكس بوت في دراسته القيمة بعنوان «المزيد من الحروب الصغيرة» رصدا دقيقا للأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة على مستوى العمليات العسكرية في العراق، كما قدم زميله ريك برنان في دراسة أخرى بعنوان «أعراض الانسحاب» تفصيلا للأخطاء التي ارتكبتها قوات واشنطن وحلفاؤها في انسحابهم العسكري من العراق.
لكن الأزمة ليست في أن الجيش الأمريكي أخطأ بعض الأخطاء التنفيذية في العمليات وفي الانسحاب كما أشار بوت وبرنان، وإنما في أن الولايات المتحدة لم تكن جادة أصلا في مشروع بناء الدولة المدنية العصرية، وهو ما قاد الجيش الأمريكي في النهاية إلى الاستعانة بمؤسسات مدنية أمريكية قامت بجهد ضئيل في إعادة بناء قدرات الإدارة العراقية، لكنها تركت ثغرات فادحة في تحقيق الإصلاح والمصالحة، ليس في العراق وحده وإنما حتى في دول لا تواجه نزاعات مسلحة!
ويبدو أن فصل «البناء» في خطة بتريوس لم يكن أكثر من خطابة مثالية طموحة مجردة لم تكتب إلا من باب الرغبة في الاكتمال النظري في الخطة، وهو ما يتأكد بوضوح عندما تتسع الصورة الميدانية لتضم سوريا التي ارتكبت فيها الولايات المتحدة – وحلفاء لها أيضا – كارثة أكبر بكثير من تلك التي ارتكبتها في العراق عندما استبدلت التدخل العسكري المباشر بتسليح الجماعات المعارضة لنظام الأسد، حتى لو كانت هذه الجماعات أكثر تطرفا ودموية ورجعية من الأسد نفسه، وعندما أزاحت عنصر «البناء» برمته من الخطة العامة عمليا ونظريا.
وبعد قرارات أوباما بالانسحاب من أفغانستان والعراق قبل إتمام أمريكا لمشروعها الموعود هناك، أصبحت الخطة الأمريكية في المنطقة كلها خطة مكونة من فصل واحد ومرحلة واحدة: إسقاط الأنظمة.. وهذا ما حدث في مصر وليبيا واليمن ومن قبلهم أفغانستان والعراق، وهذا ما يحدث في سوريا دون أن تكون هناك خطة، أو حتى تصور، لمراحل ما بعد إسقاط هذه الأنظمة، ليصبح من حق شعوب هذه الدول أن تتصور أنها تواجه مؤامرات التفتيت وإشاعة الفوضى وهدم المؤسسات، وليصبح رد الفعل الطبيعي لهذه الشعوب هو معاداة التغيير من أصله، والتشكك والتشكيك في كل من يدعو إليه.