x

«حوار الوداع».. رسائل الأبنودي لـ«شباب الثورتين» (الحلقة الأخيرة)

الثلاثاء 02-06-2015 11:31 | كتب: محسن محمود |
المصري اليوم تحاور «عبدالرحمن الأبنودى» المصري اليوم تحاور «عبدالرحمن الأبنودى» تصوير : فؤاد الجرنوسي

في الجزء الأخير من «حوار الوداع»، وجه الخال عبدالرحمن الأبنودى عددا من الرسائل لشباب الثورة، موضحا أنه لم يترك خندقهم الذي شاركهم فيه خلال ثورتى يناير ويونيو، كما يرى البعض، باعتباره قد شارف على الموت، ولا ينتظر منصبا أو منحة من السلطة، وطالبهم بمراجعة أفكارهم.

وشدد على حسن علاقته بالرئيس عبدالفتاح السيسى، وأن هذه العلاقة لا تمنعه من توجيه بعض الانتقادات للحكومة، حيث يرى وجود مسافة كبيرة بين طموح الرئيس وتطلعاته للوطن وبين الحكومة، منوها إلى أنه تحمل ما لم يتحمله مبدع، وأن ثقته بالغد كانت أقرب لـ«هبل الدراويش».

وتابع الخال: «هل كان من الممكن للثورتين أن تتحققا دون الشباب؟ أشعر دائما الآن بأنهم كفلاح زرع زرعة رائعة، حسده الفلاحون عليها، وكل من يمر أمامها يتوقف متأملا، ثم يتركها دون سبب مفهوم، ويقضى يومه على المقهى يلعب الورق ويدخن المعسل».

بدأ الأبنودى قائلا: «أولا، لم أدّع البطولة أو سعيت نحو زعامة فجة، وأيضًا لم أدّع أننى منظّر سياسى، فإما أن تكون من هؤلاء أو أن تكون شاعرا. نعم لقد سجنت، لكنه سجن رأى، وما زالت آرائى كاشفة للحقائق، لكن الدولة ليست بالحمق الذي يغريها بأن تعادينى علنًا أو أن تسجننى، وأنه ليس معنى مودتى الشخصية للرئيس السيسى أنه ليست لى آرائى القاسية تجاه الوقت المهدر، والتفكك والمسافة السحيقة بينه وبين حكومته أو عدم لمس الإدارة العفنة المعادية للثورة، بل لمجرد الإصلاح أو التجديد. الإدارة المصرية تلعب الآن دور الثورة المضادة، والإنجليز هم من بنوا هذا الجهاز الإدارى المحكم ليقف ضد تطورنا تمامًا، كما وضعوا لنا الإخوان حجر عثرة في طريق نهضتنا وتقدمنا قديمًا، وتقولون لنا إنه لا أثر في مصر للاستعمار الإنجليزي».

واستطرد: ثانيا، يتساءل الثوار الصغار: كيف من أنشد كذا وكذا، ووقف معنا في خندقنا يقف الآن في خندق آخر؟ إنه خندقكم، لكنكم واقعون تحت تأثير رهيب لكهنتكم، أما أنا، فحر، حرية ليست مجانية، لكنها عصارة خبرتى، ومشوارى، وإذا غضبتم منى فأنا أقارن بين ما ترونه وما يراه الوطن، فأستمر في طريقى مؤمنًا، أنا رجل على باب الموت، فماذا أنتظر أو بماذا ستفيدنى السلطة؟ عليكم أن تراجعوا أنتم مواقفكم، فإن الفجر لم يأت بإملاء الآخرين، لكن باكتشافاتنا الجميلة أثناء ممارسة محبتنا الوعرة لهذا الوطن.

المصري اليوم تحاور «عبدالرحمن الأبنودى»

وتابع: الشباب.. هل يمكن لأشعارنا أن تجد وحيها خارجه، هل كان من الممكن للثورتين أن تتحققا بدونهم؟ أشعر دائما الآن بأنهم كفلاح زرع زرعة رائعة حسده الفلاحون عليها، وكل من يمر أمامها يتوقف متأملا، ثم يتركها دون سبب مفهوم، ويقضى يومه على المقهى يلعب الورق، ويدخن المعسل، كأنه أمر إرادى أن تقف مع السلطة أو أن تقف ضدها، والبوصلة الصادقة في داخلك (بوصلة الوطن) هي التي تقود، وأنت الذي تتسع حدقاتك لرؤية الزمن بأكمله ما يمتد إلى الغد وما يعادى هذا الغد، ساعتها وبكل شجاعة أهاجم السلطة الغاشمة لحد التجاوز، بل إلى الهاوية كما في (مربعات زمن الإخوان) اليومية التي كنت أنشرها، لكنك في لحظة تنتقل إلى نوايا الحاكم تدعمه، حتى إن كنت تعتقد في يقينك أنه محاصر، وكل كلب ينهش جزءا، ولم يتبق للوطن إلا القليل، لكنك تعرف ببصيرتك وخبرتك الخاصة جدا التي رافقتك طوال الرحلة أن هذا القليل أبرك من كل المآسى التي سيخلفها الاختيار الآخر في ظل غياب أحزابك وتفرق جماعاتك واشتداد الحصار من حولك، أي من حول الوطن، فيصير لا مفر من أن تقف مع السلطة، وهو قول أعجب له: كيف تحبنى الأمة بفقرائها وبعيدها وقريبها، ويختلف علىّ أبنائى؟ من المخطئ فينا؟!

وواصل الأبنودى: حين تصبح أيام الإنسان في الحياة معدودة يصاب بنوع من حدة الرؤية، ونفاذ البصيرة، يكتشف أطنان الهيافة وأكداس الأوقات المهدرة التي تفيض من حوله، وكان يراها مجرد فكرة يضعها في جدول ما، سوف تتخلص منه الأمة، وتكتشف أنك ساهمت في ذلك بقوة لأنك لم تقف في مواجهته لمنعه أو فضحه، ولكنك حولته إلى كلمات اختصرت لب الحقائق، وتخلصت منها، وتكون سعيدا بقيادة سياسية وفّرت عليك دماء وحربًا، كنا سنهزم فيها «لا شك» حيث ستدوس أظلاف الثيران كل ما لك من مشاعر وأمنيات وانتماءات وفكر، وسترى أن الثيران ستجتث رقاب البشر، وهو أمر لا معقول، ومع ذلك يتحقق أمامنا يوميًا جث رقاب كل من تمرد، وتمسك بكل ما عشنا من أجله وأسميناه الوطن لتغوص مصر، بل عالمنا الذي ورثناه، وندعى أننا ساهمنا في استمراره- في مستنقع زيتى كريه أسود لا تنظفه مياه بحور الأرض.

وأضاف: الفردية تقتل الحلول، فلا نرى.. صحيح أننا موهوبون، لا أرى كاتبًا في مصر أو سياسيًا أو عاملًا أو «صايعا» ليس موهوبًا، إننا 90 مليون موهوب، الجميع لديهم رؤى تصلح للعالم بأكمله، لكن الجميع يخشى على ضياع الفردية الخاصة به وذوبانها في الآخرين، من هنا لن تنجح الأحزاب في بلادنا، وإذا تجمعنا على هدف تفرقنا مذعورين من فكرة أن نصدق أننا نشارك الآخرين مشاركة فعلية في همومهم، وقد يؤثر هذا على بريق همومنا الخاصة التي كونها نقطة نقطة، واعتبارنا أنها سماتنا وأسماؤنا وعناوين مستقراتنا في زحام هذا الوطن.

وعن المباشرة والغموض قال الأبنودى: لن نصنع فنًا عظيمًا لأننا باحثون دائمًا عن الرواج، وإلا فمن سيدفع، ويمول؟ ومن سيسمح لك بالعمل في كافة المجالات؟ حتى في حالتك كشاعر بأن السهل دائما كان يسوق الصعب، الأغنية كانت تصرف على ديوان الشعر، لأن للنقاد دائمًا مقولة عندما يجدون أنفسهم في مواجهة شعرى وضرورة ذكرى: إن شعر الأبنودى سواء في قممه أو سفوحه، فهم يعتبرون أن الجانب الذي يبدو سهلا من إبداعى، والذى ارتبط به الناس هو سفوح مع أنه ميراثى الذي أعتبر نفسى وهبته كمحظوظ: تجربة حراجى القط أو أحمد أسماعيل أو وجوه على الشط أو الموت على الأسفلت أو الاستعمار العربى أو كثير من قصائدى السياسية، ويقصدون بالقمم قصائد مثل الكتابة وتفاحة آدم، والأحزان العادية، وقصائد ديوان الفصول، والخواجة لامبو، والحقيقة أن الفصول هي عصارة كل ما فات، وهو يبدو شعرا خالصًا، لأنه يتبع النسق الأوروبى إلى حد ما، ولكن أهم ما به قادم من نفس البيئة ومن نفس تجربتى ورحلة حياتى من المنبع للمصب.

المصري اليوم تحاور «عبدالرحمن الأبنودى»

وتابع: هؤلاء الذين يحزقون ويعزقون بحثًا عن الغموض والغرابة لن تجدهم بعد موتهم بعام، بل هم ليسوا موجودين الآن، لأنهم يفصلون بين الرأى والممارسة، وما الشعر إلا انعكاس لذلك، أما نحن، فنخلق صيغة شعرية لا تخون الشعر، لأنها هدفه دائمًا، ولا تبخل أن تمد شريان نبض للحياة، لذلك فقط يصبح الشاعر موجودًا لا بتقليد العظماء ولا بمخاطبة جدران الغرف المغلقة وكل الآداب التي اجتذبتنا، وأرضعتنا محبتنا للأدب والفن رواية كانت أو قصة أو قصيدة أو فيلما أو مسرحية أو لوحة فنية أو قطعة موسيقية... إلى آخره- هي التي مدت حبال الود والعبقرية بينها وبين قلوبنا قبل عقولنا، فعرفنا أصحابها وصادقناهم، واعتبرناهم أهلنا رغم أننا لم نرهم، ولا كشفت صورهم عما يحملون داخلهم من نعم وإنعام، لذا أنا أدعو لمباشرة مارستها أحيانا في كتابة الأغنيات وهى فن جماهيرى لا يحتمل التعالى إلا على سبيل السرقة، كما في بعض نصوصنا التي تسللنا إليها بالشعر، الأغنية تكتبها (أنت فين يا عبدالرحمن) وأنت تعرف أنها ليست ملكك وحدك، وإنما أنت عنصر مشارك فيها، لأن هناك الملحن والمطرب... إلى آخره.

ويستكمل الأبنودى: أحيانا في ظروف سياسية خاصة تصبح عدم المقاومة بالشعر من أجل الوطن جريمة، ساعتها (ألعن أبوالشعر)، ولو حاول أن يعوقنى عن ممارسة وجودى رفضا وقبولا، ولكنى لا أستطيع كما قلت خيانة الشعر أو لعنه، وإنما دائمًا أوهب هذا المزيج من القول والشعر ممتزجين، فلا يمكن أن أعتبر قصيدة مثل قصيدة الميدان في ثورة 25 يناير خطبة منبرية مثلا، وإلا سقطت في الحال، وأن احتضان الناس لها بتلك الحميمية هو احتضان في صالح الشعر.

وشدد: أعود وأقول ارجعوا إلى دواوينى، واقرأوها بصفاء، فأنا شاعر لم يُقرأ بعد، لتكتشفوا أننى عشقت الشعر، كما لم أعشق شيئا آخر وخفت عليه كميراث لا أملكه، ولكن كواحد في كتيبة حراسه ومبدعيه من الشعراء الحقيقيين، ودعونى أكررها بأننى شاعر لم يُقرأ بعد، اهتم الكثيرون بما أفعل، وراحوا يفسرون مواقفى كما يحبون، واهتموا بأغنياتى وحواراتى وزيجاتى وحياتى وجمعى للسيرة الهلالية، ودائما ما كنت هدفا لهذه اللعبة، كأنهم جميعا يهربون من شعرى، وكأننى عفريت، مخالفين تماما عقيدة الشعب المصرى والعربى الأدبية والشعرية، وقد سعوا إلى أدبى وشعرى، فصرت واحدًا من أكثر الشعراء جمهورا وتوزيعا وإقبالا على ما أقول بقممى وسفوحى، فلا وقت لدى الناس للقياس بمسطرة قد تخون أرقامها وتقسيماتها حقيقة المطارح، لأن المطارح لا تقاس بالمتر والسنتيمتر، ولا يوجد أحد من الحفاة العراة، إذا ما سألتهم لا يعرف عبدالرحمن الأبنودى، وبيننا صلات ووشائج حميمة.

وعن ظاهرة كثرة الشعراء قال: صفة أخرى شديدة الأهمية تبدو واضحة لكل الناس إلا من زيغت أبصارهم بأقاويل وأكاذيب من اتفق البعض على أنهم شعراء، ولا يناقشون لهم ذُرًا ولا سفوحا، إما خوفًا من طول اللسان الذي لا يملك البعض غيره، أو لأن الجميع استقروا، وأقروا، واتفقوا على أن يسموا تلك الأنابيش شعرًا وأصحابها شعراء دون النزول بالمطرقة على رؤوسهم، وهؤلاء الذين عاشوا على الكذب كثوريين أضروا أكثر مما نفعوا، عاشوا على النميمة والشماتة، وكما قال الله في كتابه العزيز: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا)، ولكن أعرف أننى عشت شوكة نغصت على البعض طعم الاستماع بأمجاد كاذبة وشهرة فجة، وكتابات لم تعرف الحقيقة الطريق إليها، لقد تحملت ما لم يتحمله مبدع، لكنى كنت قويا ومؤمنًا بما أصدق، وكانت ثقتى بالغد أقرب لهبل الدراويش، كان إيمانى بالشعر وبدورى إيمانا مطلقًا، ولم أكن في حاجة للكذب وتشويه الآخرين، لأبدو وضاء الجبين، متفرد الصفات، ولم تهزمنى موهبتى، ولكن كانت تسير إلى جانبى، وبيننا تواضع محبين.

وتابع الأبنودى: هناك عيب شديد عشت أحتفى به مع كافة المثقفين والمبدعين وهو تثبيت اللحظة، وهذا العنوان سوف أتحدث عنه الآن، وهو أننا ننتظر الحوادث أن تحدث لكى نظل ننشغل بها، ولا نساهم في حدوثها أصلًا، يضاف إلى ذلك أن من علم الشباب السياسة عودهم على النظر إلى فوق.. (إلى السلطة)، ولم يقدهم إلى المنابع الحقيقية للحياة والتغيير، وأعنى بها الجماهير: (فلان راح، فلاح قال، فلان خطب) هذا ما عزل شباب الثوار عن جماهيرهم التي يستحقون أن يكونوا طليعتها ليغيروا بها الواقع، والواقع أنهم يدورون حول أنفسهم، يتحالفون لينفضّوا في اليوم التالى باحثين عن استقرار سياسى لا يحققه إلا انغراسك في قضايا شعبك ومعرفة ما يوقظه وما يدفع به للسير خلفك لا أمامك، إنك لا تستطيع أن تزيح أي قوة غاشمة إلا بقوة الجماهير، ولكن الجماهير لا تتواجد في وسط المدينة وفى أركان المقاهى المظلمة، الجماهير إما هناك في أماكنها، وإما في القلب، ليست كلمة لكن كبشر وكصراع مع الحياة وكأحوال ومعاناة، أي الجماهير الحقيقية وليست الكلمة التي نرددها، لم أعش يوما غنيًا، فأنا لم آكل إلا من عرق جبينى، وليس لدى يد ثالثة، وكنت دائمًا أملك تلك الثقة بأننى أو أسرتى لم نجُع يومًا.. هكذا عشت، وهكذا اعتادت معى زوجتى وبناتى هذا الإيمان، وتلك الثقة في الغد، لأن الله وهبنى زوجة قنوعًا وبيتا يمد رجليه على قد لحافه، هذا الإيمان، وتلك الثقة في الغد هما ما أوقع الآخرين في خطيئة اتهامى بالغنى وبناء أوهام على الحقائق البسيطة في حياتى.

المصري اليوم تحاور «عبدالرحمن الأبنودى»

وعن علاقته بالمثقفين أوضح: من أول رحلتى عرفت أنك إذا أردت أن تعيش في غابة بعض المثقفين عليك أن تتخير طريقا من اثنين، إما أن تقضى عمرك مبررًا سلوكيات لا تحتاج لتبرير وملاحظات عنك تضيع الوقت والجهد والعمر فيها، ولن تصل معهم إلى قناعة، مهما قدمت من أدلة، إذ لم يكن هدفهم هو الاقتناع، وإنما إلهاؤك عن التدفق والتقدم وغزارة ما تنتج وتعكير صفوك وإسكان الوساوس والشكوك في كل ما تفعل، وقد حاولت كثيرا تنبيه يحيى الطاهر لذلك، ولكن على ما يبدو كان يجدها (وسيلة اتصال) بهذه الأوساط، وكان هو نفسه يستمتع بها كلعبة، بينما كان أمل دنقل يهاجمهم قبل أن يبدأوا بتحيته، أما أنا وقد عرفت أن طاقتى (يا دوب) على قد شعرى، فإننى اعتزلت المقهى في وقت مبكر، على الرغم من أننى كنت عضوًا مؤسسًا في جماعة مقهى (إيزائفيتش) بميدان التحرير، والذى كتبت على طاولتى في ركنه البعيد معظم أشعارى الأولى، ولم تستفحل ظاهرة (نهش السيرة) إلا بعد النكسة، حيث لم يعد أحد ينظر إلى دوره وما يجب أن ينجزه، بصّارة العين على الآخرين واختراع تقصيرات لهم وتخليات عن الواجبات الوطنية بالذات في الجلسات التي أعطت (شرعية) لشرب الحشيش والضياع الثورى الذي تغلفه حبة غناء وقصائد منهكة.

واستطرد: ثروتى الحقيقية هي صداقاتى، الرجال الذين جاهدت، وأنهكت نفسى من أجل أن يكونوا في حياتى يشيرون بصدق يمدحونك فيخطئون، ويهاجمون بصدق، ومازلت حتى منذ أيام، وإن 76 عاما لم تكن بالعمر الهين والمشوار القصير، ولولا تدخينى وإهمالى رئتىّ لعشت طويلًا، فأنا لا أعانى من شىء، لكن ألاحظ أن دمى بدا يبدو ثقيلا على بعض الناس، وصاروا يتجاهلون حتى كتاباتى الجيدة، وهذا معناه بالنسبة لى (كفاية)، وأنا أكره أن يضيق بى أحد، وهؤلاء الذين كانوا يرددون أنى لا أحب إلا نفسى، ولا أؤمن بشعر أحد آخر، ولا أريد أن أترك فرصة لآخرين ،كاذبون، فلم يحب شعراء الشباب عجوز، مثلما أحببت، وقدمت، وكنت أهديهم جمهورى المتسع ليسبحوا فيه، كلٌّ حسب قدراته، أهديتهم لجمهورى، وأهديتهم جمهورى، وأنا أعيش في هذه القرية منذ 7 سنوات متصلة، أي لا مجال لى لسد الطريق أو قطع رزق، فكيف لم يحققوا ما يصبون إليه؟ ومن يمنعهم؟ في الواقع هم يؤمنون شديدا بثقافة الفيس بوك، ويعيشون على التقاط الأنابيش وضياع الوقت في هذه اللعبة، بدلا من تلمس حرارة الحياة الحقيقية والثقافة الحقيقية: البشر والأحوال والطبيعة والكتاب. ويرى أن تلك الوسائل زادت المغترب غربة، وعزلته أكثر من تلك العزلة التي يعيشها، ولا يحس بها، ويعتقد أن (الثلاثة أربعة) الذين يلتقيهم بصورة دائمة هم الشعب المصرى، وهم صناع الحياة وأطرها الفكرية، وهو أمر بعيد كل البعد عن الحقيقة، فما أضيق الحيز على الحركة! وكيف نستبدل تسقط الأخبار وترديد النكات والتويتات التافهة برحابة الحياة، ثم ندعى أننا مناضلون.

وببصيرته النافذة، يلقى الضوء على المستقبل بعد مائتى عام: بعد مائتى عام لم أكن، ولن تكون، ولم يكن أي ممن أتكلم عنهم الآن، ولن يكون السيسى الذي يهاجمونه، وستصبح 25 يناير و30 يونيو سطرا في كتب التاريخ، لذلك فمن أراد لإبداعه أن يعيش، عليه أن ينظر بعيدا بعيدا، ولا يسجن نفسه في قضايا اليوم، لكن هل المعنى في تلك الأشعار التي كتبناها والملتحمة بالواقع السياسى والنبض الحياتى الآنى ستهلك مع مستقبل الأيام؟ ربما، وربما تصبح زادا حقيقيا للتأريخ النفسى والإنسانى خارج الوقائع السياسية المدونة التاريخية والمعروفة، وعن الظلال التي تتركها على وجوهنا وعواطفنا الأحداث التاريخية، فنحن نكتب عن وقائع شديدة التأثير في تاريخ مصر، وليس قصائد عن حريق ميت غمر.. قصيدة لحافظ إبراهيم، أو غرق المركب (دندرة) يجب أن تدق أقدامك في وحلها، وأنت تستشرف القرون البعيدة، حين تصبح مصر غير هذه تماما، ويكون لأهلها اختيارات أخرى وحيوات أخرى، حين تزول الذقون والجلاليب والقعود، ويصبح إما أن تعمل بجد أو تموت، فتتطور الناس رغما عن أنوفهم، وتصبح مصر دولة عصرية تستحق الحياة وإلا فإن الزمن بأقدامه الغبية كفيل بخطوة واحدة أن يخلطها بالوحل. وواصل: حين تذوب، وتتبخر الأسماء التي بناها الكذب والصدق والإعلام والمصالح يسقط كل ما هو ليس جوهريا، تتغير الوجوه والملابس والسلوكيات، وتقع العواطف المبالغ فيها، ويعتمد الناس على الفكر والعمل، لن نكون نحن- الثرثارين العجزة- لكن، سيكون آخرون يؤمنون بغدهم وبلدهم، ويتناقشون دون تزايد من أجل تحقيق منافع حقيقية لبلدهم وللبشرية، وإلا سنصبح جرذانا مسحوقة تحت أقدام الأمم التي فهمت اللعبة، وانطلقت.. هكذا أرى أننا غارقون في تفاصيل شديدة الهيافة والتفاهة، وكلما اكتشفت في لحظات الكشف أننا نسلك كالمنتحرين، حلمت بأجيال جديدة مختلفة تماما عنا.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية