x

الأبنودي: أبي كان شاعراً سلفياً ومزق أول دواويني (حوار الوداع الحلقة الرابعة)

السبت 30-05-2015 12:14 | كتب: محسن محمود |
المصري اليوم تحاور «عبدالرحمن الأبنودى» المصري اليوم تحاور «عبدالرحمن الأبنودى» تصوير : فؤاد الجرنوسي

يواصل الخال عبدالرحمن الأبنودى، فى الجزء الرابع من «حوار الوداع» الذى اختص به «المصرى اليوم» قبل رحيله، فضفضته عن بواكير حياته فى قريته الفقيرة، معتبرا ذلك «أعظم فضل أُعطيته، لأننى عشت حياة الفقراء بشكل حقيقى، وما بداخلها من غنى وثراء لا يمكن تخيله، وكيف يصنع الفقراء عالمهم لمقاومة الظروف، ولماذا لم تنمحِ مصر، ولماذا مهما اشتدت الويلات على فقراء مصر لا يمكن أن يغلبهم غالب.. لأنهم يملكون عبقرية اشترك فى بنائها (الفقر والنيل)، (حين كان النيل نيلا)، فأتاح هذا لى دوافع للمقاومة من أجل أن تعيش هذه الأسرة التى لم تكن مكونة فى هذا الوقت إلا من أمى فاطمة قنديل وجدتى ست أبوها».

ويتابع «الخال» فى فضفضته التى طلب أن تنشر بعد وفاته: أكتب الشعر أو النثر أو الغناء وفى داخلى ضمير اسمه «الناس»، لا تمر كلمة إلا من خلاله، لافتا إلى أن حلم تعلم اللغة الإنجليزية راوده كثيرا إلا أن والده رفض تعلمه إياها، واعتبره كفرا وأصر على دراسة اللغة العربية.

الأبنودى بدأ حديثه قائلا: «نحن على تلال المغيب، تصبح النظرة أصدق، والرؤى دون تدخل أو حسابات، ويستطيع مثلى بحياد وشفافية أن يرى نفسه فى وسط هذه السنوات التى عاشها من عمر مصر، وعمر الأمة العربية، وما دار فى العالم فى هذا الزمان، وكيف رآه الناس، وكيف رآهم، وكيف رأته النخب الثقافية، والسياسية، وكيف رآهم، وماذا وهبونى، وكيف حاولوا الإضرار بمسيرتى، وحجم المحبة، وحجم الطعنات، وكلها كانت بالنسبة لى تمثل اختبارا لصدق الإرادة وحقيقة الرحلة».

وأضاف: «ولدت فى عالم مختلف عن جميع من صادفونى فى حياتى الثقافية والسياسية، وبالتالى أعتبر نفسى موهوبا - من الهبة وليست من الموهبة»، وتابع: «ولدت فى فترة كان أبى فيها يصعد اجتماعيا فى المدينة، ونسى أمى (الأمية) فى القرية، وأعتبر أن هذا أعظم فضل أُعطيته، لأننى عشت حياة الفقراء بشكل حقيقى، وما بداخلها من غنى وثراء لا يمكن تخيله، وكيف يصنع الفقراء عالمهم لمقاومة الظروف، ولماذا لم تنمحِ مصر، ولماذا مهما اشتدت الويلات على فقراء مصر لا يمكن أن يغلبهم غالب.. لأنهم يملكون عبقرية اشترك فى بنائها (الفقر والنيل)، (حين كان النيل نيلا)، فأتاح هذا لى دوافع للمقاومة من أجل أن تعيش هذه الأسرة التى لم تكن مكونة فى هذا الوقت إلا من أمى فاطمة قنديل وجدتى ست أبوها».

وواصل الخال: «بدأت أخرج للمرعى وأنا فى الرابعة لأبدأ قراءة الحقول والفصول والحياة المصرية الحقيقية، ودُرت خلف الحصادين أجمع السنابل المتبقية من خلفهم، وأعيش عالم النيل وتسلق النخيل، والغطس فى الماء والبحث فى الحفر عن السمك وتلك الخبرات التى لا يعرف عنها شيئا حتى أبناء القرى حاليا بعد أن انتهى فيضان النيل الذى كان يأتى فى شهر (الدميرة)، الذى كان يهب القرية مأكلا ومشربا وعطاء، ومِن حول كل ذلك الغناء الذى يتابع كل أنواع العمل، وعليك أن تخرج للحياة مغنيًا، وأصواتا جميلة (ابنة الطبيعة)، المهم عرفت الشعر فى وقت مبكر، لأن معرفة الشعر والغناء هناك ضرورة لذلك، مثلما تعرف أسماء عائلتك وأهلك، لأنك ستستعملهما بعد ذلك عندما تكبر فى غنائك خلف الشادوف والساقية وفوق النوارج».

وتطرق الأبنودى إلى مرحلة أخرى من بواكير العمر: «فيما بعد عرفت المدينة الصغيرة فى قنا، وعرفت أن والدى شاعر كبير، ولم أستطع قراءة ما كتب إلا بعد الثانوية العامة، وأنه منفلت من خيمة عربية قديمة، وتخيل هذا النوع من التضارب بين الثقافة العربية القديمة (السلفية)، وإبداع الحياة: (العمل فى الحقول والبكاء على الموتى)، وطقوس الحناء، والزواج، والأذكار، وشاعر السيرة الهلالية، وكلها أمور مرفوضة عند الوالد، وبدأ هذا اللون من المقاومة فى وقت مبكر، والبعض يتعجب كثيرا لأننى أذكر دائما أمى ولا أذكر أبى، بالرغم من أن أبى رجل مرموق، حين توفى أذنت له كل مساجد قنا، وهو عالم كبير ومثقف دينى حقيقى، فكان لابد من الاصطدام معه لأننى كتبت الشعر بالفصحى وذهبت لأقرأه لرفاق المرعى وأحباء القرية، وهذا أقام حاجزا بينى وبينهم، أدى إلى أن أبحث عن أشعار كأشعارهم، وأستعمل نفس الأطر التى يغنون من خلالها ويبدعون، وقد عرفت ذلك بنفسى».

واستطرد: «مزق والدى أول ديوان شعر عامية لى، ومزق الشيخ جلال أخى الأكبر المتخرج فى كلية اللغة العربية بالأزهر أول مجموعة ضخمة من أغانى الأفلام التى كنت أجمعها وجعلت منها كشكولا ضخمًا عرفت من خلاله وأنا صبى كل أسماء الملحنين وكُتاب الأغانى والمطربين، الذين لا يعرف أحد عنهم شيئا الآن، الذين خرجوا من التاريخ، لذلك حينما جئت للقاهرة، تعجب الأستاذ محمد حسن الشجاعى، الذى كان يعمل مديرا لإدارة الموسيقى والغناء فى الإذاعة، كيف لى أن أعرف كل هؤلاء البشر وأنا فى ذلك المكان البعيد فى (قنا)، وكانت واقعتا تمزيق ديوانى وتمزيق كشكول أغانى الأفلام سببا فى قطيعة (عاطفية) امتدت طويلا بينى وبين الشيخين (الوالد) والشيخ جلال».

ويعود الأبنودى بالذاكرة للقاء الأول بينه وبين الشاعر الراحل أمل دنقل: «فى المدرسة عرفت أمل دنقل وتصادقنا جدًا ونحن من قريتين متجاورتين، وسارت بنا الأيام، وحصلنا على الثانوية العامة، ووظفنا فى محكمة قنا، قضينا الجيش وخرجنا لحياة المدنية، واستقلنا وجئنا إلى القاهرة، حيث فوجئت الأوساط الثقافية بالأصوات المتفردة التى لم تقلد أحدا، ولديهما من العوامل التى لم يعشها أحد والتى لم يتعرف عليها أحد، وأعتقد أن هذا سر بقائى حتى الآن، لأنى دائما وأنا أكتب الشعر أو النثر أو الغناء فى داخلى جماهير، دائما ثمة ضمير اسمه (الناس)، لا تمر كلمة من كلماتى إلا من خلاله، ويتعجب الكثيرون: كيف لهؤلاء الفقراء العراة أن يعرفونى ويلتفوا حولى هذا الالتفاف الذى لا يحدث لمطرب معروف أو ممثل، ومن الذى يقص المسافة بينى وبين الناس ويتعاملون معى وكأنهم يعرفوننى من ألف عام؟، ذلك لأن للشعب المصرى راداره».

ويواصل: «الحديث فى مثل هذه التفاصيل يخرجك خارج حدود السن، لأن قضية السن فى مصر أو فى المدن تصيب بالضمور، الإنسان سنه 30 عامًا وهو مازال طفلا، بينما نحن كنا فى القرية يقفز الطفل من الميلاد إلى الرجولة مباشرة، قضية الطفولة قضية معدومة، لأننى منذ سن 4 سنوات خرجت لأرعى الغنم». ثم سكت قليلا وقال: «طفولة إيه؟، طفولة مختلطة برجولة وتجربتك مع الحياة التى سوف تعيشها فى المستقبل، بينما العيشة فى القاهرة مختلفة، يأخذك أتوبيس المدرسة من البيت إلى المدرسة، تخرج مع والدك إلى النادى، مخلوقات هشة، صور على مرآة، ليست مخلوقات من لحم ودم وعرق وجرح (يكبس بتراب الفرن) على الجرح يكون طاهر، محترق، ودماغ تتفتح لأى حياة، يعنى إيه تتوه نعجة فى المرعى فتفزع وتطير وتبحث عنها حتى تجدها، أنت تعرف كل ما يعرفه رجل المساحة، وأنت سنك 5 سنوات، تعرف موعد المحاصيل وطلوع النخل وموعد طرحه ومتى تجنيه، عالم غريب جدا، تنزل البير له (مراقى).. (شوف اللغة كمان)..... كيف تضع قدمك فى البير وتنزل أو تصعد (علشان لو فيه فروجه تطلعها)؟».

وحول السبب فى إطلاق اسم «رمان» عليه، يتذكر «الأبنودى»: «كان اسمى رمان.. ضبطونى فى جنينة الرمان وأنا بسرقها، ومازلت مغرما به، لذلك زرعت رمان كتير فى جنينة منزلى، وأعرف متى تزدهر ومتى تكون حزينة وذليلة، ومتى تبدأ تطقطق، وزهرتها فاجرة الجمال إنها (الطبيعة)، عندما تترك كل ذلك وتنقل إلى المدينة، الوضع أصبح مختلفا تماما، تفاصيل السد العالى عندما ذهبت، ولا تفاصيل الحرب التى عشتها، ومت وحييت عدة مرات لما كتبت (بيوت السويس) و(وجوه عاشت على الشط)، وتجربتى هنا فى الإسماعيلية 7 سنوات، قربى من الفقراء، كلهم حزن لأنى مريض، وهم أصدقائى الحقيقيون بل أهلى، وجميعهم حزانى لأننى مريض بينما الآخرون فى واد آخر، هم أصدقائى، وعارفين إن محمود الذى يساعدنى تعرض للكسر وإنه هو اللى يتحملنى، لدرجة إن الأطفال بجوار منزلى عندما يعلو صوتهم أثناء اللعب، يقولوا لهم (اسكت ياد) علشاني».

دراسة اللغة الإنجليزية حلم راود الخال فى شبابه: «رفض الوالد تماما، واعتبره كفرا وأصر على أن أدرس اللغة العربية وألا أدرس الإنجليزى، فمكثنا وقتا قليلا فى الجامعة أنا وأمل دنقل وفى النهاية عدنا ولم نكمل، ومن عجيب الأمر أننى بعد أن أنفقت سنوات وسنوات فى جمع السيرة الهلالية قررت أننى أحتاج لدراسة اللغة العربية، وقد أجد من يساعدنى فى اكتشاف منهج لدراسة هذه الملحمة المهولة، والتحقت بالجامعة تلميذا لجابر عصفور ونصر حامد أبوزيد، وكنت تلميذا حقيقيا لدرجة أنهما كرهانى لأنهما كانا يريدان أن أكون عبدالرحمن الأبنودى، ولكنى أصررت أن أكون عبدالرحمن محمود أحمد، وبنتاى تعلمتا بصورة طبيعية، حيث تخرجتا فى الجامعة الأمريكية، وأملك زوجة غالية مثل شعرى وأمى، ولم ينل أحد فى حياتى هذه الدرجة من قبل، وتغيرت نهال كمال منذ تزوجتها وأصبحت إنسانة أخرى من أجلى، فقد تربت بطريقة مختلفة عن طرقنا، وحياتها مختلفة تماما ووضعها الاجتماعى أيضا، صحيح كان زواجنا مثار تعليقات ودهشة، لكنها القلوب النورانية التى لا يستطيع أن يفهمها أو يحسها هؤلاء السطحيون».

عبدالرحمن الأبنودى

وواصل: «على الرغم من أنى خرجت من العلاقة القديمة (الزواج الأول) ولا يمكن أحد أن يقول إننى ظلمتها، كما أننى رجل لا يؤمن بانفصال الذمة المالية، ليس لزوجتى مال خاص ولم أعرف هذا يوما، ويعرف أصدقائى هذا عنى أننى أتقاضى ما أحتاجه من زوجتى لأنها هى التى تربى وتتولى الإنفاق على الجامعات والمدارس وأنا متفرغ، وهذا شىء جميل منها، وأهم أصدقائى هم من خارج الأوساط المحترفة (أطباء، مهندسون، وبعضهم أساتذة الجامعات)، وهكذا، وإن كان لى أصدقاء حميميون، مثل الدكتور محمد المخزنجى وجمال الغيطانى وعلاء الديب، وبعض العواجيز المتبقين من الماضى الجميل».

ويسرد «الخال»: «أنا عشت حياتى كما أننى أعيشها فى قنا أو أبنود، بها من التخلف ما يحمله أهلى، وبها من الأصالة والشهامة ما يتمتع به الأهل، وقد ارتكبت أخطاء فى هذه المدينة لأننى خرجت من بيئة متخلفة جدًا لا سبيل فيها لأن تفك عقدك وأن تتحرر من تلك الأطر الضيقة التى قد تصلح مع إنسان عادى وليس شاعرًا أو مبدعًا، ولكن تجاوزت كل ذلك بسرعة بالثقافة، وبإعادة تكوين نفسى من جديد، وآسف لأخطائى ولكنى لم أخطئ فى حق بلدى، أو فى حق أحد، بما فيها الخطأ الذى أعانى منه، هذا التدخين الشره الذى أدى إلى موت رئتىّ، ودائما كان لدى اعتقاد أبله أننى لن أصاب بما يصاب به المدخنون، ما أجبرنى على العيش فى هذه القرية البعيدة التى كتبت فيها الشعر غير شعر الناس فخرج مختلفاً، يعنى جعلت منها أرضًا، (غسلت ونفلت ودوبت ملح، وقلبت جبس)، كل ما تتخيله، كان لا ينبت فيها شجر، ويكون طولها شبر وتموت».

ويضيف: «هذا البيت الريفى بنيته دون مهندس، بناه (عبده الحرامى) صاحبى البناء، أنا صممته وهو نفذ، وطوال هذه المدة كان معى محمود مصطفى الشهير بين أصحابى، يحمل على أكتافه الطوب والرمل والأسمنت، بنيته بطريقة بدائية، لكنها جميلة ونحن سعداء به وعشنا به أعز السنوات، ومن زارنى من أصدقائى يعرف أن ألفة المكان تنسيك موقعه الفلاحى صعب الوصول إليه، وتنسيك أنه مكان فقير لأنه يغنى بالأحباب وبالأسمار والضحكات والود، باختصار هذه حكاية أملاكى، اشتريته بما يوازى ست سريرات فى بار من بارات منتصف المدينة، أو عشر تحشيشات وضحكات فارغة، هل وصلت الرسالة، وتستطيعون إذا ما غبت وتواريت أن تزوروا المكان وأن تنتفضوا بحثا عن عورة؟!».

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية