x

جمال الجمل اللهم لا تجعلنا من السفهاء جمال الجمل الجمعة 29-05-2015 07:45


كانت سورة الكهف، أول سورة طويلة أحفظها من القرآن الكريم، بعد الفاتحة وقصار السور، كنت أسمعها مرتين بانتظام كل جمعة، مرة من أسطوانة قديمة يحتفظ بها أبي خارج درج الجرامافون الخشبي الكبير، ومرة بصوت سيدنا الشيخ محمد.

كان سيدنا يدفع باب بيده كل صباح ويجلس على كنبة في مدخل البيت يقرأ ماتيسر من القرآن، ثم يخرج ليكمل «الرواتب» في بيوت أخرى، لكن الأمر يختلف في يوم الجمعة، حيث يأتي مبكرا، فيفطر ويشرب الينسون بالعسل، ويجلس في مكانه ليقرأ سورة الكهف كاملة، ويختمها بدعاء طويل، نردده وراءه ونحن أطفال، فيما يقول الكبار: آمين.

في ذلك العمر الصغير كانت تستهويني معجزة أهل الكهف أنفسهم.. عددهم بالضبط، كم لبثوا من السنين، وقصة كلبهم، كان الخيال الذي ترسمه المعجزة يستولي على تفكيري ويملأ رأسي بالأسئلة الطفولية، ولما كبرت ودخلت المرحلة الثانوية، كنت كثير النقاش مع زملائي، والتمسك بأن رأيي دائما صحيح، لأنني قرأته في كتاب كذا، أو سمعته في الراديو من الشيخ فلان، وحدث في نهاية الأسبوع الدراسي أنني دخلت في نقاش مع صديق يكبرني (هو الأستاذ رضا الشحات، مهندس كيميائي ومثقف نادر، التحق بعد ذلك بمعهد الدعاة وصار خطيبا وداعية)، تجادلنا كثيرا، وكل منا يتمسك برأيه حتى انتهت المناقشة ببعض الجفاء.

صباح اليوم التالي (الجمعة) استيقظت على صوت الشيخ محمد وهو يقرأ: «قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا»

لا أعرف حتى الآن، لماذا انهمرت الدموع من عيني بغزارة، وخفت بشدة أن أكون من هؤلاء، وظلت هذه الآية علامة تحذير ساطعة من غرور العلم، والإحساس بامتلاك اليقين، فالإنسان خلق ضعيفا، جهولا، ما أوتي من العلم إلا قليلا، ولا ينبغي له أن يتوهم غير ذلك، ولا يجب أن يكابر، ويخسر صديقا أو زميلا في نقاش يحتمل وجهات النظر، فقد تتصور أنك أفضل من هذا أو ذاك، وهو خير منك عند الله، وعند عباد آخرين.

ظل هذا المعنى يشغلني، وأستعيذ بالله أن أكون من الضالين الأخسرين الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا، حتى قرأت قصة أبي بن شريق الثقفي الملقب بالأخنس، وهو رجل من ثقيف اختلف المؤرخون في إسلامه، واتفقوا على أنه كان حسن المنظر، عذب اللسان، أخاذا في حديثه، وقيل أنه أعلن إسلامه أمام الرسول، وأبلى بلاء حسنا بالقول الطيب، ثم اختفى من المدينة، وقيل أنه ارتد وحرق زرعا وقتل نوقا لجماعات من المسلمين، فنزلت فيه الآية: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ).

الله.. ما أروع الكلم الطيب، الذي يذكرني بهذه الآيات من سورة البقرة التي تهز كياني، وترجف فلبي من فرط الخشية والخشوع: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ، فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ»

اللهم لا تجعلنا من السفهاء الذين يخدعون أنفسهم.. آمين

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية