(1)
أفان تيتر:
«كان يقف في الظلام، عندما ارتفع صوتها: بتخاف من الضلمة.
قال بلامبالاة: زمان، كنت بخاف جدا، دلوقتي لا.. عمري 80 سنة بقى، إيه اللي يخوفني؟!
فجأة يملأ الضوء المكان، ويصفق جمهور الاستديو للترحيب بعمر الشريف ضيف برنامج «هو والجريئة» الذي تقدمه المخرجة إيناس الدغيدي».
(2)
عنوان:
الزهايمر يزور عمر الشريف ويهديه نعمة النسيان
(3)
تمهيد
جريمة الضوء الساطع أنه يقتل التفاصيل في أي صورة، صحيح أنه يقتلها بنعومة على عكس الظلام الذي يطمس الصورة بغباء، لكن الضوء والظل يتشابهان في ارتكابهما لهذه الجريمة مهوا اختلفت أساليبهما‘ وحياة النجم عمر الشريف مثال ممتاز للتعرف على واحدة من حالات اختفاء الحقيقة تحت الضوء.
(4)
السيرة والمسيرة
كثير من الأخبار والصور والكلمات، آلاف الحوارات الصحفية والتليفزيونية، وعشرات الكتب والمقالات، لكن أحدا لايستطيع أن يمسك بملامح ثابتة لشخصية الشريف، بل أن عمر نفسه فشل في تحديد ملامح ثابتة لشخصيته، ببساطة لأنه وصل إلى مايسميه عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان «الهوية السائلة»، حيث ذابت شخصيته الأولى (ميشيل شلهوب الذي ولد في ربيع 1932)، ودخلت بقاياها في تشكيل شخصية جديدة لممثل صاعد اسمه عمر الشريف ولد أيضا في ربيع 1954، مع ميلاد شهرته كبطل لفيلم «صراع في الوادي» أمام سيدة الشاشة فاتن حمامة.
هكذا تحالف الربيع (بخصوبته وخماسينه معا) مع دوائر الضوء لتفجير التناقضات الكامنة في شخصية الطفل المدلل الذي تربى في عائلة سكندرية ثرية من أصول شامية، تذوق طعم الحزم الكاثوليكي، وتوزع بين برجماتية الأب المنشغل في تجارة الأخشاب، والأم المنشغلة بالمظاهر الأرستقراطية والتطلعات الطبقية، والعم المنصرف إلى الشعر والأدب والفن التشكيلي والمسرح، والذي تعود أن يصطحبه كل يوم اثنين لمشاهدة فيلم فرنسي في السينما.
كان ميشيل يعاني في طفولته من العزلة، ويخاف من الظلام، وكانت أمه تؤنبه كثيرا على مظهره، حتى أنها أبعدته عن التعليم الفرنسي وألحقته بمدرسة انجليزية صارمة ليخضع للنظام الكلاسيكي ويتدرب على الالتزام.
في فيكتوريا كوليدج اندمج ميشيل مع أجواء الزملاء في المدرسة، وذابت السلوكيات التي كانت تغضب أمه، وانخرط في أنشطة اجتماعية وفنية، وتعلق بأنشطة فريق المسرح، ومع سنوات المراهقة أعلن التمرد، رفع راية العصيان، ورفض الانتظام في الدراسة، وعادت الأم للتأنيب والتهديد، ثم حرضت الأب على اصطحاب الولد للعمل معه في التجارة، وفجأة وجد الفتى الحائر نفسه يعيش حياة جافة وشاقة، مع عمال وسيارات نقل أخشاب وزبائن لا ينتمون إلى طبقته وثقافته، فعاد لأسلوبه القديم.. الاحتماء بالظل والانطواء والعزلة، وشعر والده بالقلق، وترك له حرية اختيار حياته كما يريد.
لكن عمر لم يستفد من هدية والده، وعاش حياته «كما تتيسر» وليس «كما يريد»، هكذا أعلن ندمه ذات مرة وهو يسترجع علاقته بوالده: دخل أبي غرفتي ومشاعر التأثر على وجهه، وضاحكني بحب، ثم قال لي: فكر في مستقبلك، وحدد طريقك بنفسك، فالإنسان يعيش الحياة مرة واحدة، فلا تضيعها في التعاسة والعزلة، وكل ما أرجوه منك أن تتصرف دائما بعقل وحكمة.
وسط هذه الظلال الرمادية انتقلت الأسرة من حي كليوباترا في الاسكندرية إلى حي جاردن سيتي بالقاهرة، وتغيرت برامج ميشيل، وتوطت صداقته بعدد قليل من زملائه القدامى في فيكتوريا كوليدج، وكانوا يلتقون في حديقة جروبي وسط القاهرة، وهناك سطعت شمس جديدة في حياة ميشيل حيث رشحه زميله المخرج يوسف شاهين لبطولة فيلمه الجديد «صراع في الوادي»، وقدمه للمنتج جبرائيل تلحمي والبطلة فاتن حمامة، وعندما وقف ميشيل في اختبار الكاميرا أمام فاتن غرق في مخاوف الطفولة القديمة، وشعر بالارتباك وعدم الثقة، ولم ينظر نحوها بشكل مباشر، نظر إليه شاهين بتشجيع، حاول أن يهرب من الموقف بأي طريقة، فمزج بين ارتباكه وتردد هاملت، واستخدم اللغة الانجليزية كقناع يختفي خلفه، وأدى مشهدا من مسرحية شكسبير باللغة الأصلية كما أداه من قبل على مسرح المدرسة.
اقتنعت فاتن بحديث شاهين عن مزايا الوجه الجديد، بعد أن وعدها بتصحيح مشاكل اللكنة الغريبة التي ينطق بها، واقترح كاتب السيناريو على الزرقاني الاستعانة بشقيقه أستاذ الإلقاء المسرحي الممثل المميز عبدالرحيم الزرقاني لتدريب ميشيل على الإلقاء، وضبط مخارج الحروف.
وقفز الشاب الوسيم خطوته الأولى في طريق الشهرة، وبعد أقل من عام صار ميشيل مسلما اسمه عمر الشريف، صار الإنطوائي نجما، والعازب زوجا لأشهر نجمة في السينما العربية، لكن القصة لم تمض حسب نصيحة الأب، فالحظ لم يأت وحده.. جاءت معها الغربة والتفكك، والسعادة حملت معها مفاجآت زلزلت حياة النجم الذي تربع على القمة بسهولة في عدة سنوات قدم خلالها أدوارا متنوعة في أفلام كثيرة: صراع في النيل، صراع في الميناء، إحنا التلامذة، المماليك، سيدة القصر، لا أنام، بداية ونهاية، شاطيء الأسرار، موعد مع المجهول،، أيامنا الحلوة، إشاعة حب، غرام الأسياد، في بيتنا رجل، و«نهر الحب» الذي شارك فيه عمر وفاتن تحت إدارة المخرج عز الدين ذو الفقار زوج فاتن السابق، وكان الفيلم المأخوذ عن مأساة «أنا كارنيا» لتولستوي بمثابة لعنة درامية حطت على الثلاثي، فقد مرض عز وتوفي بعد ثلاث سنوات فقط، واغترب عمر بعد أن خطفته نداهة السينما العالمية، وتعذبت فاتن بالفراق سنوات بعد أن انجبت ابنها طارق، وحاولت التعايش مع عمر في غربته، لكنها لم تستطع، فعادت إلى مصر مشتتة، وتحملت لوعة الهجر والفراق ونزوات الزوج الذي صار بعيدا برغم حضوره اللامع في سماء الفن.
لا يعترف عمر بأنانيته في التعامل مع فاتن، وابنهما طارق، ويحاول ان يتعلل بمساوئ السلطة في الستينات، فيتحدث مرة عن تضرره النفسي من طريقة الحصول على تصاريح السفر للخارج، ويصفها بأنها كانت مهينة، لأنها تعتبر الفنانين من الفئات المشبوهة أخلاقيا التي يجب أن تحصل على موافقة من شرطة الآداب قبل السفر، ثم يحكي في مرة أخرى عن ضغوط مدير المخابرات صلاح نصر لتجنيده هو وزوجته للتجسس على الفنانين، وهي حكايات مرسلة، لاتبرر اغترابه، لأن فاتن عادت وواصلت مشوارها في السينما دون خوف من هذه الضغوط.
لاشك أن عمر كان يحب فاتن ويحترمها معا، لكن إهماله وخيانته لها وابتعاده عنها، كان أكبر من أن تتحمله امرأة مغمورة، فما بالنا بسيدة الشاشة العربية المحاصرة بفضول الإعلام وعيون الجماهير، تحملت فاتن سنوات، ثم حسمت امرها وطلبت الطلاق، بعد أن تفرق شمل الأسرة، حتى نادية ذو الفقار وطارق الشريف نالهما نصيب من التمزق والغربة في المدارس الداخلية الأجنبية لعدم تفرغ الوالدين.
كان هاجس العالمية قد بدأ يصيب عمر بعد ثلاث سنوات فقط من ظهور اسمه كممثل، وبالفعل شارك بأدوار قصيرة في بعض الافلام الأجنبية، وعندما سافر إلى باريس عام 1957 التقى الشاعر والمسرحي اللبناني جورج شحادة، واكتشفا أن ثمة صديقة قديمة بين عائلتيهما، حيث ولد جورج في الاسكندرية وعاش بها طفولته وصباه، قبل ان يعود والده إلى بيروت، وشارك الشريف في فيلم بعنوان «جحا الساذج» من تأليف شحادة وإخراج جاك بارتيه.
لم يحقق عمر شهرة تذكر في هذه التجارب، فعاد إلى مصر، لكن الغواية كانت بانتظاره، ووسط الترتيب لانطلاقة جديدة في السينما المصرية وصلته رسالة من المنتج البريطاني سام شبيجل تحدد له موعدا لإجراء إختبار كاميرا في الأردن أمام المخرج ديفيد لين، الذي كان يبحث عن وجه عربي لأداء دور «الشريف علي» في فيلم «لورنس العرب».
عاد عمر من عمان ببطاقة دخول إلى «متاهة العالمية»، كان سعيدا وهو يحكي لفاتن عن فرحته وانتصاره وتحقيق حلمه الكبير، فيما هي مشغولة بسيناريو حياتهما في المستقبل.
نجح عمر على شاشات الغرب، وحصل على المزيد من الأدوار، وترشح للأوسكار.. صار نجما عالميا، لكنه لم يعد حبيبا.. لم يعد زوجا من دفء وامان، صار خبرا في المجلات الفنية، وصوتا في التليفون، وموعدا متعجلا تحت سماء أوروبية بين فترة وأخرى، وسرعان ما انتقل «نقيض عوليس» من مجلات الفن إلى مجلات الفضائح: مشاجرات، ونزوات نسائية، وخسائر في القمار، وتصريحات غريبة.
وكان لابد من الطلاق، لكن عمر ظل يواصل الأداء بنفس السيناريو ونفس الحوار، وظل يكرر الحكايات القديمة، ويزيد عليها من عنده، حتى حبه لفاتن حمامة تحول إلى تصريحات تكرر أكليشيه الحب الأول والأخير، برغم زواجها من طبيب مصري كبير، وبرغم الواقع الذي يكذب كل هذا الكلام، لهذا طلبت منه فاتن بدبلوماسيتها المعهودة أن يتوقف نهائيا عن ذكر اسمها في تصريحات من هذا النوع، لأن هذا لايليق بحياتها، واستجاب لها بالكلمات، لكنه لم يفعل، ليست استهانة بالمرأة التي يقدرها من أعماقه، ولكن فقط لأنه لا يعرف غير هذه الحكايات بهذه الصياغات.
ظل العالم دائريا ومكررا في حياة مكشوفة تحت الضوء، زادتها الغربة تفككا واغترابا عن الجمهور والأصدقاء القدامى، وحتى عن اللغة نفسها، وعندما عاد الشريف إلى مصر في أوائل الثمانينات كان قد تحول إلى ماكينة للتصريحات المثيرة للجدل، و«زلات اللسان»، قدم عددا من الأفلام العادية في الداخل مثل أيوب والأراجوز والمسافر، لكنه ارتضى من داخله أن يصبح وجها لتنشيط السياحة، ومادة لصحف الإثارة، فقد عرف آلاف الحسناوات في معظم مدن العالم الكبرى، ولايعرف هل له أولاد من هذه العلاقات أم لا؟، يهجو الزعيم جمال عبدالناصر علنا، ثم يعتذر، ويعلن أنه كان وسيطا بين السادات وتل ابيب في زيارة القدس، ويعود للحديث عن بطولاته أمام صلاح نصر، وأنه رفض أن يخدع فنانة المسرح الكبيرة نضال الأشقر، ويدعي ان نصر قد طلب منه أن يقتل والدها بالسم، وأبلغ نجمة مسرح المدينة بذلك.
يقول إنه كسول مثل كل المصريين ثم يعتذر، ويتهم زملاؤه بالفشل، ثم يبرر أنه لم يكن يقصد، فقد هاجم عادل إمام وفريد شوقي ورشدي اباظة، حتى اسماعيل ياسين لم يسلم من هجومه، بل واتهم الجمهور الذي يشاهده بأنه ساذج.
مرات يتحدث الشريف فنشعر بالنضج، وروح التسامح، والحكمة وخبرة السنين، ومرات نشعر أننا أمام عجوز منفلت، يصفع إعلامية في مهرجان، ويوبخ صحفيا في مؤتمر، بل أنه لم يتحرج من إهانة مخرج أحد أفلامه (علنا) ووصف الفيلم أنه «زبالة»!
(5)
فينالة مؤقتة
لكن الشريف يظل مقبولا ونجما، ربما لأن الجمهور لم يتعامل معه يوما باعتباره شخصا من طين، أو واحدا من الناس، لكنه عجينة من ضوء، تتحرك على الأرض كما تتحرك على الشاشة، وفي الحالين ليس هناك إلا الدراما والتشويق والجدل المثار، حتى بعد أن أعلن الاعتزال، لا لسبب فني، ولكن فقط لأنه لم يعد قادرا على حفظ كلمات الحوار.
كلمات الحوار
إنها الكلمات..
يا لها من كلمات، هذه الحياة.
[email protected]