كانوا أربعة أطفال: عهد وزكريا ومحمد وإسماعيل، أكبرهم عمره عشر سنوات، مروا على الشاطئ فى غزة، فوجدوه خاليًا تمامًا. كانت تلك فرصتهم التى لا تتكرر كثيرًا فى القطاع الذى ضاق على سكانه. مليونان من البشر يعيشون على مساحة لا تزيد على 360 كيلومترًا مربعًا. لكن ها هو الشاطئ، اليوم، لهم وحدهم برماله البيضاء الممتدة تحدوها زرقة البحر الهادئة، والهواء المنعش النقى يمنحهم فرصة نادرة للإحساس بالحرية والانطلاق.
وجد عهد نفسه يركض فوق رمال الشاطئ الناعمة، امتلأت رئتاه بهواء البحر القادم من بعيد، تبعه زكريا، فقال محمد لإسماعيل: تعال نسبقهما، رد إسماعيل: قالت لى والدتى ألا أنزل البحر وحدى، فأنا ولدها الوحيد، وهى لا تريد لى أن أغرق، قال محمد الذى كان يكبره بسنة: لا تخف، لن ننزل البحر سنسابق عهد وزكريا، ألا ترى كم هو جميل الشاطئ؟
كان عهد وزكريا قد قطعا أكثر من 50 مترًا، فبدأ إسماعيل ومحمد يلحقان بهما فى محاولة مضنية لكسب ذلك السباق البرىء الذى لم ينظمه أحد، والذى راقبته طيور النورس البيضاء وهى تحلق فوقهم تراقب السباق كأنها ستعلن فى النهاية اسم الفائز. تعثر زكريا وسقط على الرمال فسقط عهد إلى جانبه وهو يضحك. كانت تلك فرصة إسماعيل ومحمد ليلحقا بهما. قال إسماعيل: «هيا أسرع يا محمد حتى نلحق بهما»، فأسرع محمد الخطى، وما هى إلا ثوان وكان إسماعيل ومحمد يلقيان بأنفسهما فوق صديقيهما على رمال الشاطئ وهما يضحكان، فنهض عهد وزكريا وأخذا يضربان هذين المعتديين اللذين سقطا عليهما من السماء كقنابل الإسرائيليين، فاشتبك الصبية الأربعة فى عراك مرح طاردوا فيه بعضهم البعض مستغلين هذا الفراغ النادر الذى لم يكن يزخر به الشاطئ إلا نادرا. قال عهد لأصدقائه: «هيا نلعب عرب ويهود. أنا وزكريا سنكون العرب». صاح فيه إسماعيل: «لا يا سيدى أنتما اليهود، وأنا ومحمد العرب». فرد عليه زكريا: «ألم نكن أنا وعهد نجلس هنا فى أمان وانقضضتما علينا كالأعداء؟ إذن أنتما اليهود ونحن العرب». وبعد مجادلة قصيرة اتفق الأربعة على أن يتبادلوا الأدوار بعد كل جولة.
وبدأت الحرب بين الجانبين، وتسلح فيها المتحاربون بالعصى بدلا من البنادق، وبأصوات الانفجارات بدلا من القنابل. طيخ! طاخ! طوخ! تعالت الصيحات، وانطلقت القذائف، واندلع القتال الذى كانوا يعرفونه منذ مولدهم، حيث عايشوه منذ مجيئهم إلى هذه الدنيا.
فجأة شاهد زكريا على الرمال الخيال الأسود للنورس وقد كبر فصار عملاقًا، وصدرت عنه أصوات مرعبة هى أزيز الطائرات التى قد تكون أصواتا عادية لبقية سكان العالم، لكنها بالنسبة للسكان فى غزة نذير شؤم ينبئ بمجىء الموت والدمار وهدم الديار.
توقف زكريا فى مكانه ولحقه عهد، أراد زكريا أن يقول لإسماعيل ومحمد: نحن الذين كسبنا الحرب، لكنه حين فتح فمه خرجت منه صرخة عصفور قصفه ذلك الطائر المخيف الذى شاهد ظله على الرمال. وسقط زكريا مدرجا فى دمائه بعد أن انقلبت اللعبة مجزرة فعلية على هذا الشاطئ الذى كان هادئا قبل ذلك بقليل.
اختفى الظل العملاق من على الرمال وسط صراخ الأطفال، لكنه عاد أدراجه لا يريد أن يترك أحدا من الأولاد الآخرين على قيد الحياة. جرى الأطفال الثلاثة يختبئون وراء صندوق قمامة حديدى كبير، لكن القذيفة طالت محمد الذى كان آخرهم فى الوصول إلى هذا المخبأ الذى لم تكن تظلله إلا السماء المفتوحة.
وهكذا استمرت اللعبة، حيث أخذت الطائرات تعود لتصطاد بقية الأطفال الواحد تلو الآخر، فبعد زكريا ومحمد كان إسماعيل ثم عهد الذى كانت صرخته الأعلى، رغم أنه كان أصغرهم، فسمعت والدته صرخته دون أن تصلها فى البيت، وخرجت كالمجنونة تبحث فى الشوارع عن وحيدها، وصرخت أيضًا طيور النورس التى كانت تتابع لعبهم على الشاطئ مطلقة صرخات ملتاعة كأنها صفارات إنذار تستدعى سكان غزة جميعًا: أن تعالوا تسلموا جثث أطفالكم الأبرياء على الشاطئ الهادئ.
(من مجموعة «ما وراء القمر» التى ستصدر الأسبوع المقبل عن الدار المصرية اللبنانية)