x

أحمد الدريني من يدفع للصحفي كي يكتب؟ أحمد الدريني الخميس 14-05-2015 21:48


من أين يُنفِق الصحفيون على تحقيقاتهم؟

في 29 إبريل الماضي، نشرت الإندبندنت البريطانية مقالا للكاتب المعروف روبرت فيسك، يتحدث فيه عن العاصمة الإماراتية «أبوظبي»، مقارنًا بينها وبين دبي، ومتطرقًا إلى بعض النقاط الحرجة في هذه المقارنة.

فهو يتساءل عن متحف «لوفر أبوظبي» الذي يعرض أعمالًا فنية تصور أناسًا عراة، أو تحتوي معاني فاحشة. فهل يتسق هذا- وفقًا لتساؤلات فيسك- مع الوجه المسلم لمدينة «أبوظبي»؟

ووسط الأسئلة اللاذعة التي يتساءلها فيسك بامتداد مقاله، ووسط المقارنات اللاهثة بين بعض مدن الشرق الأوسط وأحوالها، ووسط الآراء الجازمة التي يتبرع بإبدائها دون تردد، أشار إلى أنه نزل في فندق «قصر الإمارات» مرتين قبل أن يكتب مقاله، ثم وصف الفندق وصفًا، ربما يؤثر على سمعة الفندق، وعزز بهذا الوصف قناعة ما، بناها على مهل بامتداد مقاله.

فماذا فعل فيسك أو ماذا فعلت الإندبندنت وسط هذا التناول الحرج؟

كل ما جرى أنه تم فتح قوسين وسط التحقيق، في الفقرة التي أشار فيها فيسك إلى أنه نزل في فندق «قصر الإمارات» مرتين، ليشار إلى أن الإندبندنت لم تتحمّل نفقات هاتين الإقامتين!

ربما كان فيسك هو صاحب التوضيح، وربما كانت الإندبندنت هي التي أرفقته بالمقال.

لكن الأهمية كل الأهمية أن الصحفي أو الصحيفة، أيًّا منهما، قد اتخذ قرارًا تحريريًّا ضروريًّا، يتسق مع معايير النزاهة، حين تمت مصارحة القارئ بمصدر تمويل رحلتي فيسك، بأنه شخص أو جهة أخرى غيرها أو بأنه على حساب فيسك نفسه.

وكأن الإندبندنت تنفض مسؤوليتها عن هذا الحكم القيمي الذي أصدره فيسك، بموجب إقامته في هذا الفندق، لأنها لم تكن هي ممول رحلتيه وإقامتيه هناك.

ففي عالم الصحافة «الحرة» و«المحترفة»، لا يجوز للصحفي أن يترك المجال لمصدره كي يحاسب على ثمن مشروب أو عشاء، إذا التقيا في مجال عام، فضلًا عن حظر المؤسسات المحترمة أن يتقاضى صحفيوها هدايا من مصادرهم إذا تخطت قيمة الهدية ثمنًا بعينه.

وفي الأغلب، يتم تحديد ثمن زهيد لا يتخطى 10 دولارات، بحيث تنتفي في الهدية شبهة الرشوة، وبحيث يُستبعد أن يخضع الصحفي للمصدر أو يضطر لمجاملته.

هذا الاستقلال المالي للصحفي يعزز من قدرته على اتخاذ مسافة حيادية ضرورية من مصدره، ويضمن أن يتمتع الصحفي بالندية اللازمة أمام المصدر، والتي تعاونه على رصد الحقيقة التي يبحث عنها.

ومن ثمّ، فإذا كانت الإندبندنت لم تمول هاتين الرحلتين، فإن المعلومات الواردة والرأي الذي يبديه فيسك، هي أمور تقع على مسؤولية فيسك الشخصية، وتخضع لمدى مصداقية فيسك لدى قارئه.

الأمر ليس تشكيكًا في فيسك، لكنه إبراء ذمة ضروري، ومصارحة لا يجوز إغفالها، إذا ما عرفنا أن من حق القارئ أن يعرف مصدر تمويل وسيلة الإعلام، ليدرك ويميز هل هناك جماعة مصالح بعينها يخضع لها الصحفي أو يعمل ضدها؟

الكلمات الخمس، التي نفت فيها الجريدة البريطانية صلتها المالية برحلة لأحد كُتّابها، تُعد درسًا جليًّا في الاستقلال الصحفي والنزاهة المؤسسية واحترام القارئ.

الصحافة مهنة خطرة..

مع الوقت يشعر الصحفي بأهميته، ويدرك أن خبرًا يكتبه أو تقريرًا ينشره أو مقال رأي يطل من خلاله على القراء، ليس أمرًا هيّنًا.

فلديه قوة إقالة مسؤول، أو النيل من مؤسسة أو جهة أو شخص، وبمستطاعه أن يُربك حسابات الكثيرين من داخل جسم الدولة وخارجها.. وهو ما يخلق، أحيانًا، علاقة نفسية مركبة بين الطرفين.

الأمر الذي قد يُجرّد الصحفي من نزاهته ويضطره لمعاداة مصدره، لذلك أدرك الصحفيون الأكفاء على مدار عقود أن الصحفي لابد أن يستقل عن مصدره، ولابد أن يتمتع بعلاقة نفسية صحية وسليمة في نفس الوقت، تحميه من أن يجور على هذا المصدر أو أن يخضع له.

دارت الأسئلة في رأسي تباعًا حول هذه القضية الشائكة، بينما مقالات الرأي وبرامج الفضائيات، تنطلق في كل الاتجاهات بلا ضابط أو رابط.

مجاملات غير مبررة (فلنسمها مجاملات مؤقتًا)، وعداوات غير مفهومة، دون أن يكون هناك ضابط مهني يوضح للقارئ ملابسات المعاداة أو المجاملة، ناهيك عن إطلاع القارئ والمشاهد على مصادر تمويل هذه القنوات وتلك الصحف وأولئك الكُتّاب!

فحين يعرف الجمهور من أين يتلقى الصحفي راتبه، سيعرف لمصلحة من يجري كل ما يجري.. هل هو لوجه الصحافة ــ كمهنة نزيهة ــ أم أنه لوجه شيء آخر؟

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية