كان أول ما خطر ببالى حين وطئت قدماى لأول مرة أرض العاصمة (القاهرة)، وأصبحت واحدا من سكانها فى أواخر عام 1962 أو أوائل 1963، أول ما خطر لى هو أن أرى شخصيا أولئك العمالقة الذين كنت أقرأ لهم وأنبهر بهم: العقاد، طه حسين، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، يحيى حقى... إلخ، وقد كان اللقاء ببعض هؤلاء سهلا وميسورا، إذ إن بعضهم كان يعقد جلسات أسبوعية فى منزله أو فى غير منزله، حيث تتاح فرصة الحضور لمن يشاء، وكان أمين الخولى واحدا ممن التزموا بهذه السنة الحميدة.. كان فى ذلك الوقت رئيسا لتحرير مجلة «الأدب» التى أنشأها والتى احتضنت عددا من الموهوبين الذين أصبحوا فيما بعد من العلامات البارزة قى مسيرة الأدب العربى، وكان أيضا قد اشتبك مع العقاد فى واحدة من تلك المعارك الفكرية حامية الوطيس التى خاضها العقاد فى سنواته الأخيرة والتى حمل فيها على معارضيه فى الرأى حملة شعواء، واصفا إياهم بأقسى العبارات والأوصاف، وبرغم أن كلام العقاد لم يكن يخلو من الحجة القوية المقنعة فى أحيان كثيرة، فقد أحسست أن كلام أمين الخولى أقوى حجة وأكثر إقناعا!، ومن ثم فقد سعيت إلى لقائه فى ندوته التى كانت تعلن عنها مجلة الأدب على صفحاتها، وقد كانت تعقد فى إحدى العمارات عتيقة الطراز الكائنة بشارع الجمهورية.. كان يتحلق فيها حوله عدد من تلامذته المعجبين بمنهجه العقلى المستنير والذين عرفوا فيما بجماعة الأمناء وهى تسمية تحتمل المعنيين: النسب إلى الشيخ أمين نفسه من ناحية، والتأكيد على أن الأمانة الفكرية هى فى مقدمة ما ينبغى أن يحرص عليه باحث أو مفكر من ناحية أخرى، (وهو ما كان يفتقده فى بعض مقالاته الأستاذ العقاد نفسه رغم مكانته الفكرية الكبيرة).. كان أمين الخولى عبقريا بغير شك،
ويكفى أن أشير هنا إلى أنه قد تخرج من تلك المدرسة الفريدة التى أنشأها سعد باشا زغلول ناظر المعارف فى عام 1907 بناء على توصية من مفتش القضاء الشرعى الشيخ محمد عبده، دعا فيها إلى ضرورة تخريج جيل من القضاة الشرعيين الملمّين بالعلوم العصرية المختلفة بدلا من خريجى الأزهر الذين لا يلمون بتلك العلوم! وهكذا أنشئت مدرسة القضاء الشرعى التى كان طلابها يدرسون الفيزياء والرياضيات المتقدمة جنبا إلى جنب مع العلوم الشرعية والقانون، وقد كان النظام فى تلك المدرسة صارما وقاسيا، فلم تعرف نظام الملحق أو النقل إلى الفرقة التالية بمواد تخلف، بل كان يفصل منها فورا كل من يرسب فى أى مادة أيا ما كانت !!.. وهكذا كان من الطبيعى أن المتخرج منها لابد أن يكون نابغا حتى ينجح فى كل ذلك!.. وقد كان أمين الخولى واحدا من هؤلاء!!.. أعتذر عن هذا الاستطراد وأعود إلى موضوع حديثى وهو الشيخ الذى بهرنى عندما استمعت إليه أكثر مما بهرنى العقاد الذى قدر لى أيضا أن أحضر صالونه الأدبى وأن أتحاور معه أكثر من مرة، أعود إلى حديثى لكى أستعيد ذكرى واقعة معينة دخل فيها إلى مقر الأمناء شاب نحيل، عندما رآه الشيخ أمين هبّ واقفا ورحب به ترحيبا شديدا، ومال الشاب على أذن الشيخ وقال كلاما لم أتبينه لكن الشيخ قال فى حنو: «حاضر سننشرها يا جمال!»، ثم التفت إلينا قائلا: جمال الغيطانى.. شاب موهوب.. أتنبأ له بأنه سوف يكون واحدا من أهم أدباء مصر فى السنوات القادمة.. يبقى أن أقول إننى أستعيد هذه الواقعة التى كانت بداية تعرفى بكاتبنا الكبير جمال الغيطانى، بمناسبة أنه فى 9 مايو 2015 يبلغ سن السبعين وقد تحققت نبوءة الشيخ أمين!.