هو طريقٌ طويلٌ، المهم أن نبدأ أولى خطواته، نضع لبناته الأولى، ونترك للأجيال القادمة استكمال البناء.
الخطوة الأولى: أن نخرج من أقفاص الستين عاماً الأخيرة، التى بدأت 1952م بالتحالف بين الضباط الأحرار والإخوان المسلمين، فقد كانوا- العسكرى والدينى- شُركاء عند نقطة البداية. ثم انتهت الستون عاماً فى 2012م، حيث أشرف العسكريون على الانتخابات التى سلمت مقاليد البلد للإخوان، فقد انتهوا- الدينى والعسكرى- خلفاء عند نقطة الختام. نعم: لازم نخرج من هذا القفص الذى لا يسمح إلا بأن يكون العسكرى هو الحل الوحيد، والذى لا يسمح إلا بأن يكون الدينى هو البديل الوحيد. وهنا يلزم تسجيل عدة ملاحظات:
أولاً: عندما نزل الجيشُ- فور سقوط النظام- مساء 28 يناير 2011م، نزلتُ لاستقباله بالدموع، وكانت هذه هى مشاعر كل المصريين، فى لحظة وقف فيها البلدُ على حافة المجهول المُخيف. كذلك الحالُ عندما نزل الجيشُ صباح 26 يونيو 2013م ومنصةُ رابعة ومن عليها من الإخوان وحلفائهم يهددون ويتوعدون الشعب بالسحق والإبادة. الجيشُ هو من ضمن بقاء الدولة بعد سقوط مبارك. وكذلك الجيش هو من ضمن السلم الأهلى ومنع الانزلاق إلى حرب أهلية بعد سقوط مرسى.
ثانياً: الجيشُ- فى المرتين- تعهد بمطلب الدولة المدنية، وفى كلتيهما تعهد بأنه ليس له مطامح سياسية. وهذه هى طبيعةُ الجيش المصرى منذ تأسس على يد محمد على، الجيشُ هو شاسيه الدولة الحديثة الذى يضمن وجودها ويحفظ بقاءها، ولكنه ليس طرفاً سياسياً، وفى المرات التى انزلق فيها قادةُ الجيش إلى السياسة خسر الجيشُ وخسرت الدولة، حدث هذا مرتان:
المرة الأولى: مع الثورة العرابية، فشلت الثورة، وسقطت الحركة الدستورية البازغة، وتعرضت البلد للاحتلال الأجنبى لأكثر من سبعة عقود، وانهزم الجيشُ فى الحرب، ثم جرى حلُّه بقرار من الخديو بعد توصية من الاحتلال، وتأكدت سلطة الخديو توفيق العميل والمستبد فى وقت واحد.
المرة الثانية: مع ثورة يوليو 1952م، حيث وقع الجيش فى دائرة التنافس بين الرئيس والمُشير، بين ما هو سياسى وما هو عسكرى، بين عبدالناصر وعامر، خسر الجيشُ الحربَ فى ثلاث ساعات ونصف ساعة فى صباحية مشؤومة فى 5 يونيو 1967م، وتعرضت أكثر من سُدس مساحة الوطن للاحتلال الإسرائيلى، الذى وصلت قواتُه إلى مشارف جسر السويس لتضع عاصمة البلاد نفسها فى مرمى نيران العدو، وكان على الشعب أن يُعيد بناء الجيش، الذى دفع ثمن أخطاء القيادتين.
ثالثاً: من عرابى إلى عبدالناصر، ومن السادات إلى مبارك وإلى ماشاء الله، الجيش لا يتحمل أخطاء القادة السياسيين الذين جاءوا من صفوفه، وفى كل اللحظات الوطنية فإن انحياز الجيش يكون على أسس وطنية محضة ونقية، فمنذ تأسس الجيشُ المصرى وهو مؤسسة وطنية خالصة، تنصهر فى بوتقتها كل الولاءات والانتماءات والتحيزات والعصبيات، لتمثل سبيكة وطنية لا تعرف الولاء الشخصى أو الدينى أو الجهوى أو القبلى، لذا يبقى الجيش الوطنى المصرى سند الأمان فى لحظات الاستقرار، بمثل ما يمثل جهة الإغاثة والنجدة والإنقاذ فى لحظات الخطر الذى تعجز الأمةُ عن مواجهته.
رابعاً: إذا خُيّرتُ بين البديلين العسكرى أو الدينى، فأنا- بدون تردد- أختار البديل العسكرى، لكن يبقى ذلك اختياراً اضطرارياً ومؤقتاً تمليه لحظاتُ العُسر والشدة، فالبديلُ الدينى يعنى أن تتحول بلادُنا إلى أحاديث وأن تُمزَّق كل مُمَزَّق، ولو لم تقُم ثورة 30 يونيو، ولو لم يسقط حكم الإخوان، لكانت مصر- الآن- مسرحاً عبثياً تتصارع على خشبته عدةُ دول دينية فى وقت واحد، دولة الإخوان، دولة السلفيين، دولة داعش، دولة الجهاديين. ولكن البديل العسكرى يعنى تأجيل المطلب الديمقراطى إلى حين تنتهى الظروف الطارئة، وإلى حين يجرى إطلاق حقبة مدنية جديدة.
خامساً: أعترف بالثلاثة: مصر- فى هذه اللحظة- ليست فيها ماكينة مدنية جاهزة أو مؤهلة، والسبب واضح: فبعد ستين عاماً من سيطرة المزدوج الدينى- العسكرى، الذى اتفق 1952م على إسقاط الدستور، وعلى إلغاء الأحزاب، وعلى مصادرة حرية التعبير والرأى والتفكير، تمت إبادة كل نبتة مدنية فى مهدها، بحيث لم يكن من بديل عن ناصر إلا الإخوان، ولم يكن بديل عن السادات إلا الإخوان، ولم يكن من بديل بعد مبارك إلا الإخوان.
آخرُ الكلام: الطريقُ إلى الدولة المدنية طويلٌ، والسؤالُ: من أين نبدأ؟!
والحديثُ مُستأنفٌ.