x

جمال الجمل نام حزيناً.. كأنه راية قافلة غرقت فى الرمال جمال الجمل السبت 25-04-2015 21:34


زهرة بنت القرعان، طفلة سمراء فى التاسعة من عمرها، خرجت ذات صباح إلى البئر القريبة لتملأ جرة صغيرة بالماء، بعد قليل عادت أختها وحيدة وهى تصرخ: زهرة... زهرة!

لقد خطفها «الجلاب».. حملها على ظهر حصانه وذهب بعيدا، بعد أن هدد الجميع بسيف طويل يلمع تحت الشمس الحامية.

بعد 60 عاما جلست «زهرة» تحكى بقية القصة لحفيدها داخل بيت صغير بمدينة الإسكندرية: دخل الجلاب بيتا فسيحا قرب كردفان فى السودان، وسلمنى إلى السيد على بن سعيد بن يعقوب الشريف.

سأل الفتى: من يكون هذا؟

قالت زهرة: إنه جدك، كان تاجرا للرقيق، لكنه احتفظ بى ولم يبعنى، وبعد سنوات تزوجنى وأنجبت أمك.

شعر الصبى الأسود بأن سيف الجلاب قسمه إلى نصفين، صار ممزقا بين «حاضر» لا يخلو من نسمات الحرية وفرصة التعلم بالمعهد الدينى فى إسكندرية الأربعينيات، و«تاريخ» تلوثه العبودية، يومها التقى الصبى بالحزن، وتعرّف على ملامحه «الزنجية» التى لم ينتبه إليها قبل حكاية الجدة.

ذلك الصبى هو عاشق أفريقيا، الشاعر محمد الفيتورى، الذى رحل قبل يومين بعد أكثر من مراودة عابثة للموت، أشهرها حدثت قبل ثلاث سنوات حتى إن صديقه القديم فاروق شوشة نعاه فى مقال طويل أثار ضجة!

يحكى شوشة أنه التقى بالدكتور ميلود حبيبى، رئيس مركز تنسيق التعريب بالمغرب، خلال مؤتمر مجمع اللغة العربية (إبريل 2012)، فأراد أن يطمئن على أخبار الفيتورى بعد أن أسقط عنه ثوار ليبيا الجنسية وعزلوه من السلك الدبلوماسى.

قال حبيبى متأثراً: الفيتورى مات منذ أسابيع، وأكد الخبر الأديب العراقى الذى يقيم فى المغرب على القاسمى!

كان الشاعر قد أصيب بجلطة فى المخ عام 2008، وترددت أنباء عن موته، لكنه (رغم مرضه) زار القاهرة لحضور التكريم الذى نظمته لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، واكتفى باختيار قصائده ليلقيها آخرون لأن الجلطة أثرت على نطقه وصحته بشكل عام.

منذ ذلك الحين ظل خبر موت الفيتورى يتجدد ويتردد، فى ظاهرة مؤسفة تعبر عن مهزلة الإعلام العربى، وجحود المثقفين حتى مع كبار المبدعين، فقد مات قبله كثيرون وهم أحياء، أذكر منهم نازك الملائكة التى أعلنت الصحف وفاتها أثناء الحصار الأمريكى للعراق، واستمرت مظاهر التأبين الإعلامى أكثر من أسبوع قبل أن تظهر الحقيقة!

مقال شوشة المطول يصل بالمهزلة إلى أقصاها، فقد نشرته صحيفة «أخبار الأدب» المتخصصة فى الثقافة، كما أن شوشة عضو لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة وصديق الفيتورى منذ تزاملا فى كلية دار العلوم عقب ثورة يوليو، ومع ذلك سارع بالنعى دون أن يتحقق أو يتصل بأسرة صديقه، وهو الذى يعرف زوجته المغربية وابنته «أشرقت»!

ردا على هذا «التمويت» أصدر اتحاد كتّاب المغرب بالهرهورة، بياناً، قال فيه إن «عاشق أفريقيا» مازال حياً على شاطئ سيدى العابد فى الرباط، بعدها بثت قناة «الميادين» خبرا عن موت الفيتورى مجددا، تلقفته عشرات الصحف، مشفوعاً بعبارات النعى الجاهزة الباردة!

تحت أضواء الإعلام الكاذب لمع فى ذهنى سيف «الجلاب» الذى اختطف «زهرة»، رأيت السيف يشق قلب «الفتى الأسود»، ويزرع فيه غربة لا تنتهى، فهام الفيتورى «عريانًا يرقص فى الشمس»، تماهى مع الشعراء السود: إمام العبد، وسحيم عبد بنى الحسحاس، والسليك، وعنترة بن شداد الذى سكن روحه، وصار شريكا له فى مأساة جمعت بين الفروسية والعبودية، فانطلق الفارس ضائعاً مشرداً يفتش عن الحرية ممتطياً خيول سأمه، معتبرا «أفريقيا السوداء» هى غربته التى عاشها، أو شاء أن يعيشها، وعندما أدركته خيول الموت لم يبتسم، أشهر حزنه، ورفع راية الاستسلام قائلا: الآن يستوى السواد والبياض، ثم مات مرة أخرى كأنه راية قافلة غرقت فى الرمال.

مُت يا محمد كى تعيش أكثر، فبعض عمرك ما لم تعشه/ وما لم تمته/ وما لم تقله/ وما لا يقال/ وبعض حقائق عصرك/ أنك عصر من الكلمات/ وأنك مستغرق فى الخيال، حدق بلا وجه وارقص بلا ساق، وسِّد الآن رأسك يا سلطان العشاق، استغرق يا محمد فى الفناء، فليس فى الياسمينة غير البكاء.. دنيا لا يملكها من يملكها، والغافل من ظنّ الأشياء هى الأشياء!.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية