ظل الأبنودي جاري لسنوات طويلة، قبل أن يفرقنا المرض، فيغادر للإقامة في ريف الإسماعيلية مشدودا لأرض «الكنال» التي تذكره بأجواء أبنود، ومستجيبا لشروط داء الصدر الذي تشعل القاهرة سعاله.
لم تتحول جيرتنا إلى صداقة مستقرة، حتى أنه سألني ذات مرة: انت إيه حكايتك معايا؟
قلت مازحا: علاقتنا تشبه النيل عند أبنود
قال باسما: ياروعة النيل عند أبنود، سقاني الشعر والخيال.
قلت: لكنه كثير التعرجات، ويشبه علامة استفهام كبيرة راسها في فرشوط وذيلها في إسنا!
قال رافعا حاجبيه: أول مرة تخطر على بالي الحكاية دي، بس التشبيه ده حلو.
هكذا استمرت علاقتي بـ«هومير مصر» الذي لم اقل له يوما «ياخال» كما يحب أن يسمع، لكنه كان يغفر لي هذا العناد، ويقول بصفاء نفس صادق: أنا بحبك عشان بحب المناكفة.. طالما فيه حب، سيبك من الشكليات.
النيل عند ابنود يتحول إلى علامة استفهام كبيرة
بدأت علاقتي بالأبنودي على الورق، فقد قرأته قبل أن أسمعه، وسمعته قبل أن أحاوره، وحاورته قبل أن أشتبك معه. اختلفت معه كثيرا، واتفقت معه كثيرا، وفي كل الأحوال كانت العواصف تتحول إلى نسائم ود، نبتعد كما يبتعد النيل عن الجبل فتتسع مساحات الخضرة في أبنود، ونقترب فينكمش الشريط الأخطر ويصبح الجو مهددا بعواصف من الرمل الأصفر، ويظل هذا التوتر وقود العلاقة وغذاء ديمومتها.
في منتصف التسعينات كنت أصور معه لقاء تليفزيونيا تحول فجأة إلى «خناقة» غاضبة سجلتها الكاميرا، قبل أن ينتبه ويشخط في المصور: «اقفل المحروقة دي».
كان اللقاء حول ثورة يوليو، وأثناء حماسه في الحديث عن القومية العربية والثورة ارتجلت المذيعة سؤالا كان يتردد بين مثقفي اليسار حيذاك: هل الأبنودي الذي كتب لعبدالحليم حافظ «ابنك يقولك يا بطل هاتلي نهار/ ابنك يقولك يابطل هاتلي انتصار/ ابنك يقول أنا حواليا الـ100 مليون العربية/ ومافيش مكان للأمريكان بين الديار» هو الذي كتب لعبدالله الرويشد «اللهم لا اعتراض/ سامحني يا الله/ حتشق قلبي الآه»؟.
اثناء العاصفة الرملية التي اجتاحت المكان جلست بجواره صامتا، وعندما انتهى من تفريغ غضبه، نظر نحوي قائلا: انت اللي كاتب السؤال ده؟
لم أنطق، فعاد إلى غضبه بدرجة أقل موجها كلامه للجميع: أصلي مابحبش العوج والتلقيح، مايعجبنيش الكلام البطال.
بعد دردشة معتادة عن اليسار وأزماته وأمراضه ومزايداته، قلت له متخابثا: خسارة الكلام ده مايبقاش قدام الكاميرا.
قال: شغل الكاميرا يا أخويا، أنت فاكرني هاتقمص.
واستكملنا التصوير في جو من الود والصفاء، كأن عاصفة لم تهب منذ قليل.
في القرب والبعد، في الاتفاق والخلاف، في الهدوء والغضب، لم يتراجع احترامي للابنودي وتقديري لموهبته، وأشهد أنه لم يكن يوما متطرفا في موقف، ولا متعصبا لجهة، ولا متحمسا لأحد غير الناس. الناس هم المغناطيس الذي يحدد مواقفه وانحيازاته واتجاهاته، ترك الفصحى واتجه للعامية عندما لم يفهمه رفاق الصبا في أبنود عندما بدأ كتابة الشعر بطريقة والده الشيخ محمود، ترك التنظيمات السرية والعمل السياسي ليقترب أكثر من عويضة بطل «الدايرة المقطوعة»
«الله يخرب بيت الفكر/ وبيت اليوم/ اللى ورانا الفكر/ لإن الفكر كتاب/ وعويضه حياته هباب وتراب.
إذا مش نازلين للناس/ فَ بلاش/ إيه المعني؟/ وأى بطولة/ فِ إن حياتنا/ واحلى سنينَّا/ يروحوا بلاش؟ / حاجة ماراكباش!«
****
ولإن حمول الأيام مش مرفوعة/ إذا يد عويضه ما ترفعهاش
والقولة الحقَّة مش حقّة/ إذا صدر عويضة ما طلَّعهاش
والخطوة حَ تفضل مشلولة/ إذا قُدّامنا عويضة ما خطَّاش.
ولإن دى حاجة عويضة لسّه ما يدركهاش/ ولا يدركناش/ ولا يعرفناش
ولإننا لما دبحنا بعض مناقشه/ على القهوة لاجل البشريه/ عويضة ما سمعناش
تبقى الدايرة ما دايراش/ واما ييجى المخبر/ يسحبنا عَ الزنازين/ لازم نبقى عارفين/ إن السَّحبه ببلاش/ وان الحدوته ما لافَّاش/ والدايره ما تامَّاش/ والدنيا ما حِلْواش
*****
أنا وانت هنفضل نلعب طول العمر دورين: طليعة وجماهير، لكن الأبنودي اختار الناس، انحاز لعويضة، عشان كده ماماتش/
عاش!
جمال الجمل