قال الشاعر القديم: «كل الحوادث مبداها من النظر/ ومعظم النار من مستصغر الشرر»
جوهرالمعنى لا يبتعد كثيرا عن النظريات الحديثة في العلم والفلسفة، فمثلا نظرية «تأثير الفراشة» تقوم على أن هذا الإعصار المدمر ولد من رفة جناح فراشة، والتاريخ يقدم لنا أمثلة كثيرة على وقوع كوارث هائلة بسبب ذرائع بسيطة، مثل هروب الأميرة هيلين مع الأمير باريس والذي أدى إلى انهيار مملكة طروادة، ونشوب الحرب العالمية الأولى لأن الطالب الصربي جافريللو اغتال الأرشيدوق فرانز ولي عهد النمسا أثناء زيارته لسراييفو، وسقطة المهندس العراقي سعيد الحيدري الذي اخترع كذبة صغيرة تيسر له الهجرة إلى أميركا، فدمر بلاده وأغرقها في الدم، وسلمها للاحتلال.
حكايات هيلين وجافريللو والحيدري ليست موضوعنا، لكننا نبحث في كيفية تصنيع واستخدام هذه الظروف لتهيئة رأي عام يبرر لأجا ممنون الاستيلاء على طراودة، ويدفع ألمانيا لمواجهة دول الوفاق الثلاثي ومحاولة فرض إرادتها على أوروبا، ويتيح لأمريكا احتلال العراق.
الإعلام إذن هو مقصدنا، الإعلام الكاذب تحديدا، وأخشى أن أقول إن الإعلام نشأ في الأصل كاذبا، وأن تكوينه التاريخي يتضمن ثغرات فساد مقصودة للتزييف والتضليل والإلهاء، وإذا لم يكن هناك ضرورة سياسية واقتصادية للكذب، فإنه قد يتسلى بتقديم بعض الحقائق!
عادة ما تحضرني في هذا الشأن قصة إنشاء وزارة الدفاع الأمريكية لمكتب «التضليل الإعلامي»، لكنني سأبدأ هذه المرة بمفارقة أخرى: معظمكم يعرف أن أهم جائزة صحفية وأدبية في أمريكا اسمها «جائزة بوليتزر» على اسم رائد الصحافة جوزيف بوليتزر، صاحب جريدة نيويورك وورلد، والذي تبرع عام 1892بمبلغ ضخم لجامعة كولومبيا من أجل إنشاء أول كلية للصحافة في العالم، وقوبلت دعوته باستهجان كبير لأن نظرة الناس للصحفيين كانت سلبية فهم «مجرد أناس طفيلين تعساء أيديهم متسخة دائما بالحبر، ليس لديهم أي إبداع أو فكر» وهذا يذكرني بالمرافعة الهجائية التي قدمها محامي الشيخ عبدالخالق السادات في دعوى تطليق السيدة صفية السادات من الشيخ على يوسف رئيس تحرير صحيفة «المؤيد» لأنه «يحترف مهنة الجرائد وهى أحقر المهن وعار وشنار على من يعمل بها»، وحكم الشيخ أبوخطوة بتطليقهما برغم تدخل الخديو لصالح الشيخ على يوسف.
يالطيف!!.. الخديو واللورد كرومر في القضية؟!
المسألة تكشف إذن عن زواج سري آخر بين الصحافة والسلطة، وهو ما كشفه خبراء الإعلام عن بوليتزر الذي ناضل من أجل فكرته، ونشر عام 1904، مقالاً بعنوان «كلية الصحافة» في مجلة ذي نورث أميركان ريفيو، جدد فيه تأكيده اهمية إنشاء كلية لتعليم فنون الصحافة، وجاء فيه:
«إن الصحافة السطحية الساخرة التي تشكك في الفضائل البشرية، وتأوي المرتزقة، والغوغائيين سوف تنتج مع الوقت شعباً خسيساً مثلها»
بعد هذا المقال الهجومي قبلت جامعة كولومبيا تبرعه، وتم افتتاح الكلية عام 1912.
هل أعجبكم إصرار بوليتزر وحديثه عن الصدق والفضيلة؟
تعالو إذن نتعرف على أسلوبه الصحفي في ذلك الوقت حيث كان يرأس تحرير صحيفة «وورلد» التي قامت بحملة كبيرة ضد الأسبان، واتهمتهم بتدمير البارجة «ماين» في خليج هافانا (عام 1898) وعلى متنها 260 شخصا، فقد نشرت «وورلد» أن الأسبان زرعوا لغماً تحت هيكل السفينة ونددت ببربريتهم و«معسكرات الموت» لديهم بل ووصفتهم بأنهم من أكلة لحوم البشر، وطبعا حظيت هذه الحملة بدعم قوي من رجال الأعمال (خاصة الذين يستثمرون في كوبا ويريدون التخلص من الأسبان هناك).
هل تتذكرون فيلم «المواطن كين» لأورسون ويلز، ومؤامرات تخطيط الحملات الإعلامية، هكذا أشعل بولتزر نيران الحرب ومعه راندولف هيرست مؤسس صحيفة «نيويورك جورنال»، وسائر الصحف التي دخلت «الهوجة» تحت مانشيتات حماسية تطالب بالثأر:
«تذكروا الماين»... «الموت للاسبان»
وعندما صار الجو العام في حالة من الهوس والاستعداد للثأر أعلن الرئيس وليم ماكنلي الحرب في أبريل عام 1898.
كانت حادثة الماين في فبراير، وهذا يعني أن ثلاثة أشهر من التحريض الإعلامي فترة كافية جدا لإقناع الناس بدخول أي حرب، طالما يريدها الساسة، ويعاونهم الرفيقة السرية (الإعلام)
في عام 1911 وبعد بعد 13 عاماً فقط كشفت لجنة التحقيق في تدمير البارجة «ماين» أن الانفجار كان حادثاً عرضيا غير مدبر في غرفة المحركات!
هكذا يبدو أن استخدام الإعلام في التضليل لم يبدأ مع تحرك البنتاجون لإنشاء «مكتب المخططات الخاصة» بعد أحداث 11 سبتمبر بتوصية من بول وولفوويتز الرجل الثاني في البنتاجون، وإدارة «الصقر المتشدد» أبرام شالسكي، لكن الفكرة قديمة وتكمن في طبيعة العلاقة السرية المشبوهة بين الإعلام والسلطة.
تمام.. الحل إذن في خصخصة الإعلام، وتحريره من هيمنة السلطة.
على رأي كابتن لطيف الله يرحمه: الفكرة حلوة لكن التنفيذ مش قد كده، فقد كشفت الكثير من الكتب الأمريكية أن إدارة بوش الصغير كانت تخطط قبل 11 سبتمبر للتلاعب بالرأي العام العالمي من خلال شبكات تضليل معظمها لشركات تسويق إعلامي خاصة ترتبط مع المخابرات المركزية والبنتاجون بعقود سرية، ولعلكم بذلكم تفهمون حكاية توصيف سنودن بأنه «متعاقد» أو «متعاون» وليس موظفا في C.I.A، وطلب رامسفيلد من صديقه مايكل ديفر، خبير «الحرب النفسية» أن يسعى في هذا الاتجاه، فأكد على ضرورة الربط بين الاستراتيجية العسكرية والتغطية التلفزيونية، لأن «كسب الرأي العام هو كسب الحرب» حسب تعبيره
هكذا أسس رامسفيلد ومساعده دوجلاس فيث، دائرة سرية باسم «إدارة التضليل الإعلامي»، وعندما كشفت عنها صحيفة «نيورك تايمز» وتحولت غلى فضيحة لإدارة بوش، تم الإعلان الوهمي عن إلغائها، وبطريقة إعلان مرسي الدستوري أسسوا بدلا منها «دائرة التأثير الاستراتيجي» واعلنوا أنها ستمارس التضليل، ولكن خارج أميركا، ولتخفيف الضغوط على المؤسسات الرسمية بدات حمى التعاون مع مؤسسات خاصة مثل «راندون جروب» و«ساتشي آند ساتشي»، والتعاقد بأجور كبيرة مع صحفيين محترفين دون الإعلان عن ذلك، ودعم وتأسيس منابر إعلامية في الأماكن المستهدفة، وهذا يقودنا إلى قصص شيقة عن مؤسسات الكذب والتضليل التي تسمى صحفا وفضائيات!
ونأمل أن تسمح لنا الظروف قريبا بفضح هذه الخديعة الكبرى.
* الكذب هو أحد وجوه الحقيقة (سيدني بولاك)
جمال الجمل