ما زال نجيب محفوظ أديب العربية الكبير قادراً على إثارة دهشتى كلما تأملت سيرته وتفكرت فى حياته. لقد كنت أتساءل دوماً لماذا استمر هذا الرجل يشغل وظيفة عادية بوزارة الأوقاف لسنوات طوال بالرغم من أن مكانته كأديب أعطته أكثر بكثير مما منحت رؤساءه ومديريه الذين عمل تحت إمرتهم أثناء حياته الوظيفية؟ أعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال تجسدها سيرة حياة أديب آخر كانت قصصه وأعماله الأدبية شديدة النضوج والنصاعة هو محمد عبد القادر المازنى.
لقد أنفق المازنى جل سنى حياته وموهبته على الكتابة فى الصحف، وكانت أعمدته فى صحف الأخبار والسياسة والبلاغ تشغل الناس وتمتعهم لسنوات.. لكن للأسف بعد وفاته لم يبق من إنتاجه إلا النذر اليسير، حيث إن الكتابة بالصحف السيارة لا تترك بعد وفاة صاحبها إلا هشيماً تذروه الرياح!.. وطبيعى أن ما دفع المازنى لإنفاق موهبته للكتابة بالصحف ما كان يتقاضاه منها للوفاء باحتياجاته الحياتية.. و لعل هذا كان السبب الذى من أجله تمسك محفوظ بالوظيفة، وقد ثبت أنها كفلت له أماناً مادياً جعله يتفرغ للأدب الروائى ولا يكتب بالصحف إلا بعد الخروج إلى المعاش، ولم تكن مقالاته على أى حال بمستوى أدبه، حيث يبدو أنه كان يكتبها مجاملة للصحيفة، بينما يدخر عصارة عقله للأدب.
جانب آخر من شخصية أديب نوبل جدير بالتأمل، هو نفوره من السفر وعدم تحمسه للانتقال بعيداً عن القاهرة، حتى إنه قضى الخمس وتسعين عاماً التى عاشها، فقط بين القاهرة والإسكندرية ولم يتحرك حتى إلى الصعيد أو مرسى مطروح والواحات، ولم يعرف الغردقة وشرم الشيخ وغيرها من مدن مصر، ومعروف كذلك أنه لم يغادر مصر سوى مرتين فى حياته فى فترة الستينيات، واحدة إلى اليمن والأخرى إلى يوغوسلافيا، وواضح أن السفريتين كانتا مجاملة منه للسلطة، ولم تكن بدوافع ذاتية. ولعل هذا ما حدا بأديب كبير آخر هو يوسف إدريس وقد أظهر حنقاً عظيماً بعد فوز محفوظ بجائزة نوبل إلى القول إنه هو شخصياً لف العالم كله وطاف وشاف وهضم كل ما صادفه فى الكون ثم أخرجه على صورة أدب قصصى.. وفى النهاية ذهبت نوبل إلى نجيب محفوظ وهو جالس على القهوة!.
قد يؤكد هذا أن حياة محفوظ كانت حياة رأسية وكذلك أدبه.. حياة تتمدد إلى أعلى وإلى أعمق لكنها لا تسيح أو تنتشر أفقياً، ولعل هذا ما أكسب الرجل حكمة لا مثيل لها انطبعت فى أدبه المحلى الذى لم يبرح شوارع القاهرة أو شوارع الإسكندرية على الأكثر. ولعلنا نلاحظ أن شباب الأدباء فى أيامنا هذه يمتلكون معرفة تقنية كبيرة بالنت والكمبيوتر ووسائط التواصل الاجتماعى، كما أنهم فى معظمهم كثيرو السفر والتنقل ويمتلكون معرفة كبيرة بأنواع وأنماط مختلفة من البشر والمدن والأماكن، ويمكن أن نقول ونحن مطمئنون أن هؤلاء الشبان يعرفون معلومات ويحيطون ببيانات أكثر عشرات المرات مما كان بين يدى نجيب محفوظ، لكن ترى هل يمتلك أحد منهم شيئاً من حكمته؟ لا أتصور أن الكم الكبير من المعلومات والبيانات والأخبار والمعارف تتيح لصاحبها حيزاً يسمح بالهضم والتمثل والتأمل وهى الشروط اللازمة لاكتساب الحكمة.