(1) تمهيد
وصلنا إلى المسار الشعبي في غابة التكفير، حيث طمع الأفراد البسطاء في امتلاك ما احتكره الملوك طويلا، وعينوا أنفسهم (هم ايضا) وكلاء للسماء، بل زادوا وتمادوا وقدموا أنفسهم (وهم الضعفاء المساكين) باعتبارهم أصحاب حق وقدرة على حماية الله القوي الجبار من بشر آخرين مثلهم.. بشر مخلوقين مصيرهم إلى الفناء والحساب!
لا أعرف كيف يقرأ المكفرون قوله تعالى: «إن الله يدافع عن الذين آمنوا»؟، ثم يتوهمون أنهم هم الذين يدافعون عن الله، أو يحفظون الذكر الذي تعهد الله جل جلاله بحفظه، كما ورد في سورة الحجر (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون).
(2) الوحش الشعبي
بعد هذا التمهيد لاتصدق أن الأخوين كواشي قتلا 12 نفساً في مقر صحيفة «شارلي إبدو» الفرنسية، انتقاما لازدراء الإسلام أو السخرية من الرسول الكريم، ببساطة لأن الدين نفسه لايأمر بذلك، والرسول كان يتعرض في حياته لكثير من الإيذاء والسخرية، فيقابل الإساءة بالسلام والابتسام.
هناك إذن مناورة خداع مركبة ساهمت فيها عوامل تاريخية وآنية، أدت إلى إخفاء الدوافع الحقيقية للقتل تحت مظهر ديني، وفي رأيي أن الفقر والتهميش، والإحساس بارتباك الهوية، وعدم المساواة، كانوا أقوى تأثيرا على الأخوين كواشي من دافع الثأر للدين، لأن المسيح (وهو نبي من انبياء الله) يهان بشكل يومي في الغرب دون أن يتدخل مسلم متطرف للدفاع عنه!
دوافع الأخوين كواشي المركبة هي نفسها التي تظهر في مصر مع تصاعد أي مشكلة تمس الأديان، فإذا تأملنا مثلا حالة ودوافع قاتل فرج فودة، سنجد أنه كان أميا لم يقرأ مؤلفات الباحث، لكنه استجاب لفتوى تعده بالجنة تحت ظروف معيشية صعبة، والحال نفسه ينطبق على طاعن نجيب محفوظ: نفس الفقر، نفس الوهم، نفس الفتوى بالتكفير وازدراء الدين التي ينفذها شاب يائس من الدنيا، ولم يعد له إلا البحث عن جائزة باسم الرب في الآخرة.
هؤلاء القتلة ليسوا أبناء الدولة، ولا متدادا لمسارها، بالعكس إنهم مطاريدها، ساقطين من رعايتها، فالتقطهم «الخوارج» الذين يطمحون لحفر مسار مناوئ للسلطة الرسمية، تتخفي فيه فكرة «الحكم المطلق» تحت قناع الدين وليس السياسة، ويستخدمون في تحقيق هدفهم أحفاد عبدالرحمن بن ملجم (قاتل الإمام على بن أبي طالب).
فرصة الخوارج صارت الآن أفضل، فقد ضعفت قبضة الدولة، ذابت في محيط العولمة، انهارت الأسوار، انكشفت الاسرار، فقدت الدول احتكارها لأدوات الهيمنة، شاعت الروح الفردية، تنامت وسائل الاتصال، أشرق عصر الجماهير الغفيرة مكتسحا في طريقه مواقع ومهام النخب.
هكذا انتعشت فرص المسار الشعبي في مواجهة المسار الرسمي، فقد امتلك الكثير من أدوات السلطة، بل نجح إلى حد كبير في أن يمتلك «شعبه الخاص»، وهو شعب مسخه البؤس، التهمت الأزمات روحه الإنسانية، فتعود أن يخفي أطماعه الدنيوية خلف قناع زائف يرى فيه نفسه كحارس للعقيدة.
هل يمكن أن يكون أصحاب هذا المسار على حق؟
إنهم يؤدون الفروض والعبادات، ويتشددون في تطبيق نصوص القرآن والسنة (حسب مفهومهم)، ويجاهدون من أجل نصرة الإسلام والمسلمين في مواجهة فسطاط الكفر.
حسنا، لماذا لم يغضب الأخوين كواشي من عشرات الأفلام والأقلام التي سخرت من المسيح والمسيحية؟
سألت نفسي، منطلقا من إيمان المسلم بأنبياء الله وكتبه ورسله، وليس بنبي واحد أو كتاب واحد، فإذا كان الأصل في الغيرة على الدين هو حماية العقيدة كما وردت في النصوص من دون إضافات خاصة بنا أو أحقاد وحسابات دنيوية، فلماذا نقتص لمحمد ولا نقتص لعيسى وموسى وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام أجمعين؟
أعتقد أن التفكير في إجابة عن هذا السؤال يكفي لكشف الخدعة، وبيان الدوافع الحقيقة للحروب وجرائم القتل التي تتخذ من الدين غطاء ومبررا، وتكتسي بمظهر مقدس في حين أنها مظهر بدائي للانغلاق الفكري والتعصب النفسي والانفعالي، وفي رأيي أن السماحة الدينية تبدأ في التآكل تحت ضغوط الظلم والفقر وغياب العدل، حتى تتحول القيم الدينية العظيمة إلى مجرد ذرائع للانتقام لاتلتزم عادة (مع الآخر العاصي أو الكافر) بالحكمة والموعظة والحسنة بل تنتهج مختلف الأساليب الإجرامية، بعد تبريرها وتجميلها ظاهريا بشعارات دينية أو أخلاقية تتعارض مع جوهر الأديان والأخلاق ومفاهيم التعايش الإنساني على مر العصور!
(3) توضيح واجب
ركزت في مقالي على نقد الذات في حضارتنا العربية الإسلامية، وهذا لا يعني نزاهة الآخر من تهمة «ازدراء الأديان»، ولا براءته من توظيفها في الصراع الحضاري الذي ظهر وجهه القبيح في الحروب الصليبية، كل ما هنالك أن إعلان مواثيق حقوق الإنسان في المجتمع الدولي، جعل مثل هذه الحروب غير مقبولة بشكلها القديم، فلست بحاجة لإثبات أن الصراع بين الشرق والغرب لايزال قائما، وممتدا، وإن تحسنت صورته الظاهرية، وبناء على هذه المكاشفة التي كتب عنها كثير من كتاب الغرب أنفسهم، أوضح أن الخلاف مع الغرب لا يتعلق بالإزدراء، ورد الفعل عليه، بل يتعلق بغياب «الاحترام»، وهو موجود في نصوص القوانين التي تبالغ هذه الدول في إظهار الالتزام بها، حتى أن الحياة الخاصة لأي مواطن عادي تظل محل احترام وحماية، لكن عندما يتعلق بالإسلام لا يكون الحرص بنفس الدرجة، وتتكشف درجة من التحامل تصل إلى «الازدراء»، وهي تهمة معيبة يجب أن يتجاوزها العالم بعد قرون من التناحر الديني، لذلك على الغرب (وعلينا) التمسك باحترام عقائد الآخرين ومشاعرهم وشعائرهم، حتى نكسر دائرة الخداع التي نواصل من خلالها نفس اللعبة القديمة، التي نخلط فيها بين الأرض والسماء، بين السياسة والدين.
جمال الجمل