لدي تصور بسيط، خلاصته أن كل مشاكل البشرية في الأرض، وليست في السماء.
هذا التصور «الواقعي» الذي لا يضر بأي شخص أو جماعة، يمكن تحويله في الماكينة القانونية لأكثر من 30 دولة (تعتبر نفسها عصرية)، إلى اتهام بازدراء الأديان!
المفرح في زماننا أن الاتهام «القانوني» لا يفضي إلى الحرق والصلب كما في العصور الوسطى، والمؤسف أن الحرق والصلب لم ينته، لكنه خرج من تحت المظلة الرسمية، وصار عقابا يمارسه العوام بتفويض إلهي يمنحه كل من يرغب لنفسه، ويمكنك أن تلاحظ ذلك في الأفلام الاحترافية التي ينتجها «داعش» كتطور طبيعي لأساليب القتل البدائية التي مارسها أفراد أو تنظيمات صغيرة مع شخصيات تم تكفيرها بفتاوى غير رسمية مثل السادات وفرج فودة وآخرين!
لقد خرج القتل باسم التكفير من قبضة «الحاكم الشرعي» إلى ساحة الخصخصة، وصار بإمكان أي فرد (يطلق لحيته أو بدونها، برتدي سروالا أو بدلة عصرية) أن يفتتح دكانة للتكفير والذبح باسم الدين.
هذه هي المفارقة المخيفة التي أحاول التنبيه إليها في هذا المقال، فمعظم المثقفين المدافعين عن الحريات عامة، وحرية التعبير والإبداع خاصة، وجميع المنظمات الحقوقية تقريبا يركزون جهودهم على نقد النصوص القانونية المتعلقة بما يسمى «جرائم ازدراء وتحقير الأديان»، أو المطالبة بإلغائها، مع أنها نصوص إرشادية غير رادعة، يوجد مثلها في معظم دول العالم، حيث تجرم الهند، والبرازيل، وكندا، وجنوب أفريقيا، وجميع الدول الأوروبية بما فيها فرنسا أي إساءة للأديان والمعتقدات، أو تحريض على كراهية الآخر، بسبب دينه أو لونه أو عرقه، حتى روسيا التي كان دستورها يسمح بالهجوم على الأديان، اقرت في العام الماضي قانونا يجرم ازدراء الأديان بالحبس 3 سنوات.
أين المشكلة إذن؟
المشكلة أن تهمة «ازدراء الأديان» اتخذت مسارين تحولا مع الوقت إلى مايشبه فم وحش مفترس فكه الأول يتمثل في توظيف الحاكم للدين من أجل التمكين السياسي، وهو ما يمكن تسميته «تديين السياسة»، أما الفك الثاني فيتمثل في توظيف المحكوم للدين من أجل الانقضاض على السلطة وهو ما يعرف فعلا باسم «تسييس الدين».
وفي الحالين يتم توجيه تهمة «ازدراء الدين» لكل مخالف، وعادة ما تتضخم التهمة إلى التكفير الصريح، وهذا التكفير المفتعل لا ينبثق فقط من «فقه الإخضاع» الذي تسعى إليه «الدول» لفرض الطاعة والتدجين بين مواطنيها، بل ينبثق أيضا من «فقه الإزاحة» الذي تمارسه جماعات دينية تدعي أنها تملك تفويضا من السماء يتيح لها سلب حياة الآخر بأساليب وحشية تعيدنا إلى ظلام العصور الوسطى، حيث القتل بالحرق والصلب وقطع الرقاب.
هذه القضية لا تقتصر على واقعة بذاتها مثل صلب الحلاج أو قتل فرج فودة أو حرق معاذ الكساسبة، ولا يثيرها شخص صدامي مثل خليل عبدالكريم أو سيد القمني أو إسلام بحيري، ولا ترتبط بزمن معين سواء كان خلافة الإمام على عندما ظهر الخوارج، ولا عصر المأمون عندما تصاعد الخلاف بين الدين والسلطة، ولا عصرنا الحالي حيث يتساهل الجميع مع الدم، بحيث تلاشى تدريجيا الفرق بين «المسلم المتعصب» سفاح تنظيم الدولة، وبين «المسلم الوسطي» الغيور على دينه.. حتى صار قمع الدول أرحم من قمع المواطن، فالدول تطمع فقط في تعميم فقه إخضاع الآخر المختلف والسيطرة عليه، بينما المواطن يجاهد من أجل إزاحة ذلك الآخر المختلف ومحوه تماما من الوجود.
وللقضية بقية.
جمال الجمل