التقينا منذ سنوات طويلة، وبرغم كل الفوارق والاختلافات في الثقافة والشخصية صرنا أكثر من أصدقاء، كانت فتاة رائعة الجمال شديدة الجاذبية، تتحدث العربية برنين موسيقي مميز لا يخفي لكنتها الأجنبية، الأم أوروبية والأب من عائلة أرستقراطية عريقة، وبرغم ثرائها كانت «نون» اقتصادية في جميع تصرفاتها، حتى شاع عنها أنها بخيلة وصعبة في التعامل المنفتح مع الآخرين، لكنني كنت أشعر أن هناك شيئا ما وراء هذا الحرص غير البخل، ربما في أسلوب التربية، أو في نظرتها للآخرين، أو في شعور غامض بالخوف من شيء مجهول، فقد كنا شلة لطيفة من الأصدقاء والصديقات نلتقي في كافيتريا الكلية، ونتنزه في أماكن مفتوحة، أو حفلات سمر شبابية لطيفة، وفي كل هذه الأماكن كانت «نون» تشاركنا في المرح والنقاش والقفشات، لكنها لا تأكل ولا تشرب معا، ولا تتعامل ماليا معنا بأي صورة.
كنا نعزم بعضنا البعض ونتشاكس في ذلك بلطف يلائم سنوات عمرنا القليلة، لكنها وقت الطعام كانت تأخذ جانبا وتفتح حقيبتها لتستخرج ساندويتش ملفوف بعناية لا تكاد تخرجه من الحقيبة كاملا، بلا تميل برأسها لتقضم منه قطعا صغيرة ببطء، وعندما تنتهي تضع المخلفات في نفس الكيس داخل الشنطة، ثم تخرج من حقيبتها أيضا الماء أو العصير، تشربه، ثم تمسح فمها ويدها بمنديل مبلل، وتعود لتشاركنا ما نفعل وسط دهشة البعض من هذا السلوك الفردي الذي دفع البعض للتساؤل البرئ، ودفع آخرين للاستنكار والسخرية، لكن «نون» لم ترد على أي استفسارات، ولم تأبه بأي اعتراض أو استنكار، وكنت أفكر فيها دوما كأنها طفلة صغيرة في الحضانة تنفذ تعليمات أمها بضروة الحفاظ على الساندوتش والتهامه كاملا، دون أن تنسى المشروب وتنظيف الفم واليدين!
مع الوقت أدى سلوك «نون» الإنجليزي إلى حالة من النفور داخل الشلة، وسمحت لي علاقتي المقربة منها أن أناقشها بشكل صريح في هذه المشكلة، ونصحتها بإظهار قدر أكبر من المشاركة وتجنب العزلة الزائدة عن الحد، فالأصدقاء يتبادلون العزومات ويتشاركون في كثير من الأشياء لتعميق الود وكسر الحواجز، لكن الموضوع بدأ يضايق «نون» فعلا، حتى فوجئنا بسفرها وانقطاع علاقتها بالشلة.
بعد سنوات بدأت تتواصل معي على فترات، حتى تلقيت منها رسالة تخبرني فيها أنها تعيش في مصر منذ فترة، وتقيم في مدينة صغيرة بمحافظة المنيا، وطلبت مني زيارتها.
استقبلتني «نون» في محطة القطارات، واصطحبتني في سيارتها إلى المكان الذي تعيش فيه.. بيت ريفي واسع أدهشني ما رأيته بداخله.
الحاجة فتحية كانت في استقبالنا بلهجتها الصعيدية المميزة عند البوابة الخشبية التي تتوسط سياجا من الأشجار العالية، وداخل الحديقة الواسعة شاهدت أطفالا وفتيات في أعمار مختلفة كأنهم في معسكر مفتوح للعمل والتعلم وممارسة الحرف اليدوية، وكانت المفاجأة الأكبر أثناء الغذاء حيث فوجئت بصديقتي «نون» تتوسط هذا الحشد، تأكل مع الجميع وتشاكس وتعلق وتجامل، لم تدس فمها في الحقيبة، ولم تنزو في ركن بعيد، ولم تستخدم المنديل المبلل، حملت زجاجة ماء وقالت لي ضاحكة: تعالى نروي الزرع.. أنا أصب لك تغسل إيدك، وأنت كمان تقوم بدور الحنفية.
شعرت «نون» أنني مشحون بالدهشة، فلم تنتظر سؤالي، وقالت: أثناء احتسائنا للشاي الصعيدي سأحكي لك كل شئ..
قالت نون إنها تربت حسب تقاليد صارمة، وكل شئ في حياتها كان يخضع لحسابات لا مجال للناس فيها، وأن مناقشاتي معها أزعجتها بشكل كبير حتى شعرت أنها غريبة تماما عن هؤلاء الأصدقاء الذين لا يحترمون حياتها، ويتصرفون ببدائية وفوضى، ثم يوجهون لها الإدانات والإهانات على سلوكها المتحضر في يدافعون عن سلوكياتهم هم برغم أنني كنت أنتقدها في قرارة نفسي، وأحيانا كنت أشعر بالتقزز منها، وأراها ضد الخصوصية والاحترام، ولما قررت أمي العودة إلى أوروبا بعد وفاة والدي حسمت قراري وسافرت معها، وكثيرا ماكنت استرجع ذكريات مع الشلة وأفكر في مناقشاتنا وأشعر بالحيرة، وأسأل نفسي: كيف ظلت ذاكرتي تحتفظ بهذه الصور والذكريات في حين أنني نسيت الكثير من الأحداث في حياتي، وكيف تبهت صورة الحياة في أوروبا أمام عفوية المشاهد التي كنت أتقزز منها؟
وذات صباح خرجت إلى الحديقة العامة للتريض والتأمل، جلست ساعات طويلة حتى فاتني موعد الغذاء مع أمي، فلم تكن لدي رغبة في العودة، كنت أشعر بحنين غامر لنزهاتنا وحفلات سمرنا، وأتذكر الكثير من التفاصيل، خرجت من الحديقة لشراء علبة متوسطة من قطع البسكويت، وضعتها في حقيبة الظهر وعدت إلى الداخل، كانت الحديقة قد ازدحمت بالرواد، بحثت عن مقعد شاغر فلم أجد، كانت هناك سيدة عجوز تجلس وحيدة على مقعد مزدوج فجلست بجوارها وأنا منزعجة لأنني لا أحب أن أتناول طعامي بجوار أحد، مددت يدي وفتحت علبة البسكويت بهدوء، وأخرجت أول قطعة وبدأت في التهامها، ثم فوجئت بالسيدة تمد يدها وتأخذ قطعة وهي تبتسم لي.
شعرت بالغيظ، لكنني لم أستطع التصرف، وتناولت قطعة أخرى ففعلت السيدة نفس الشيء، فازداد غيظي وحدثت نفسي عن قلة ذوق السيدة وتطفلها على الآخرين، خاصة وأنني كلما تناولت قطعة كانت تتناول هي الأخرى قطعة وهي تبتسم ببرود مستفز، حتى تبقى في العلبة قطعة واحدة، فمدت السيدة يدها وأمسكت القطعة، كنت في منتهى الغيظ والتوتر، وأنا أراها تقسم القطعة وتناولني نصفها وتقضم النصف الآخر وهي تبتسم.
رميت القطعة في العلبة بغضب، وقلت بصوت مسموع «شيء مقزز» ثم انصرفت دون أن أنظر للسيدة المتطفلة قليلة الذوق، وعندما وصلت إلى البيت كنت غاضبة جدا، وعندما استفسرت أمي، حكيت لها عن الموقف، وأنا أبدل ملابسي وأستخرج الأشياء من حقيبتي، وإذا بي أجد علبة البسكويت التي اشتريتها في مكانها داخل الحقيبة، وأنني كنت طوال الوقت أشارك السيدة في علبتها، وهي تبتسم وتتشارك معي بحب ولم تتقزز مني أو تشعرني أنني متطفلة.
بكيت كثيرا وعشت أياما سيئة كنت أسترجع فيها كل شيء بمفهوم جديد، وتفهمت كلماتك التي أغضبتني من قبل في مناقشاتنا الأخيرة، وبعد وقت عصيب اقترحت أمي أن نسافر إلى بيت العائلة للاستجمام كما كان يفعل أبي في وقت المشاكل والأزمات، وطالت الزيارة شهورا، علمتني خلالها الخالة فتحية معنى الحب والمشاركة وحب الناس، ورويدا رويدا ولدت من جديد، وانتميت لهذا العالم الرائع، وكان لابد أن أقول لك: أنا آسفة.
كان لابد أن أقول لك: أشكرك
أشكرك.