أوضحت في مقالي السابق أن تهمة «ازدراء الأديان» سلكت مسارين تحولا مع الوقت إلى مايشبه فم وحش مفترس فكه الأول يتمثل في توظيف الحاكم للدين من أجل التمكين السياسي، وهو ما يمكن تسميته «تديين السياسة»، أما الفك الثاني فيتمثل في توظيف المحكوم للدين من أجل الانقضاض على السلطة وهو مايعرف فعلا باسم «تسييس الدين».
وفي هذا المقال أناقش المسار الأول الخاص بالسلطة، وهو مسار طويل يمتد من حالة الجماعة الدعوية والمرجعيات الشرعية المبسطة ذات الطابع الفردي، إلى مفهوم الدولة العصرية والحكم الدستوري والقانوني، ويتصور البعض أن تطور مفهوم الدولة انتهى إلى ترشيد رغبتها في توظيف الدين، بحيث تنازلت عن وصايتها على عقائد الناس، لكن التطور ظل شكليا ومغطى بغلاف من الاحتيال، فقد تم تصميم العقوبات القانونية الخاصة بازدراء الأديان بطريقة مراوغة وكلمات فضفاضة، لكي تستخدمها السلطة كأداة للإخضاع وعصا لترويض الخارجين عن الصف، أو لإعطاء مسحة دينية وأخلاقية تساعد في تمكين أنظمة الحكم
لا تندهش إذا علمت أن هذه العقوبات تتدنى أحيانا لتصل إلى 100 جنيه غرامة كما في نص المادة 98 من قانون العقوبات المصري، أو أقل من ألف دينار كما في المادة 101 من قانون الجزاء الكويتي، لأن الصياغة المطاطية لهذه القوانين تسمح في بعض الدول بتكييف التهمة إلى «جريمة ردة» تصل عقوبتها إلى الإعدام كما في السودان والسعودية.
هذا التراوح الكبير في العقوبة، وفي النظر للقضية عموما، يرجح التصور الذي بدأت به مقالي الأول، وهو أن المشكلة أرضية وليست سماوية، فهي مجرد وجهة نظر بشرية نسبية، بلا حدود قاطعة، وليس لها عقوبات عاجلة في النصوص الدينية ذاتها، حتى أن الأنبياء أنفسهم تعرضوا لهذه التهمة، حيث رأى قومهم أن «الدين الجديد» بمثابة «ازدراء» لأديان وجدوا عليها أباءهم!
لذلك تعرض الكثير من الأنبياء للإيذاء والتنكيل، ومع ذلك لم يتحدثوا عن أوامر من السماء تفرض عقوبات دنيوية على من يكفر أو يسخر من دين لا يؤمن به، ولم يثأر نبي من قومه على إيذاء تعرض له، أو خلاف في العقيدة.
ظل الحساب مؤجلا عند السماء، حتى تبلورت سلطات «التفويض الإلهي»، وقدم أصحاب الحكم الدنيوي أنفسهم باعتبارهم وكلاء عن السماء، وهكذا تداخلت السياسة مع الدين، واختلطت المعايير، وتحولت وجهة النظر «الفردية» أو «الفئوية» إلى حكم مطلق وصل ذروته في ظلام العصور الوسطى في أوروبا، حيث أصبحت الكنيسة ظلا للسماء توزع البركة واللعنة، تملك الجحيم كما تملك صكوك الغفران.
هذا النوع من «وكالة السماء» ظل حتى العصور الوسطى قاصرا على الحكام والكهنة، بل كان موجودا بدرجات وأشكال مختلفة في معظم الحضارات والتجمعات البشرية، ففي مصر القديمة مثلا حدث نوع من التماهي بين الفرعون والإله، وفي عقائد الشرق القديم راجت مفاهيم «الحلول»، بمعنى أن الإله قد يحل في جسد بشر أو حيوان ما يستوجب تقديسه، وما إلى ذلك.
في الإسلام كان الأمر مختلفا، والرسول لا يسعى إلى قداسة أو مسحة إلوهية «إنما أنا بشر مثلكم»، وكان شديد التسامح مع من يهاجم العقيدة أو يتطاول عليه شخصيا، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم اعتبر البعض أن حروب الردة في عصر سيدنا أبوبكر الصديق تعتبر أول عقاب لجريمة «إزدراء الدين»، وفي تقديري أن الدافع الأساسي لهذه الحروب لم يكن «الخوف على العقيدة» وإكراه الآخر على التمسك بها، بل «الخوف على الدولة» التي تتشكل، والحفاظ عليها من الانهيار بعد وفاة الرسول، لكن السياسي تداخل مع الديني، وتعمد المستشرقون توصيف الحروب ضد القبائل «المنشقة» عند الدولة باعتبارها «حروبا عقائدية»، مع أن السبب المعلن هو «الجزية» والبقاء تحت طاعة «الدولة».
تفسيري المتواضع يستند إلى مقولة سيدنا ابو بكر «والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله، لقاتلتهم عليه»، كما تستند إلى رؤية أبوبكر المدنية للحاكم، والتي تكشف عنها خطبته الشهيرة، بما تتضمنه من قبوله للنقد والتقويم، وعدم قداسة أي بشر حتى الرسول (من كان يعبدمحمدا فإن محمدا قد مات..)
مرت خلافة الشيخان أبوبكر وعمر في مساعي لتمكين الدولة الناشئة وتنظيم مؤسساتها الدنيوية، وفي النصف الثاني من خلافة ذي النورين عثمان بن عفان، كشفت الفتنة الكبرى عن ولادة مفهوم «التفويض الإلهي» ووكالة السماء، حيث رفض الخليفة فكرة التخلي عن السلطة معتبرا أن الخلافة «قميص» ألبسه له الله ولا يجوز له أن يخلعه أبداً!.
كان أبوبكر خليفة رسول الله، وعمر خليفة ابو بكر، لكن عثمان اعتبر أنه خليفة الله في الأرض، وهذا التفويض (المخترع من خارج الدين) منح للحاكم بعد ذلك سلطة الحساب قبل يوم الحساب، كما منحه حق التفتيش في النوايا، والشق عن قلب المؤمن، وهو السؤال الذي كان يٌعَجِز به الرسول كل من يحاول تكفير مسلم أو رميه بالنفاق، وتحت هذا المفهوم اضطهد الإمام أحمد ابن حنبل نتيجة خلاف فقهي (القرآن أزلي أم مخلوق؟)، وتعرض المعتزلة وفرق الاجتهاد في علوم الكلام لملاحقات وتنكيل سياسي بغطاء ديني (فالدين يؤجر المجتهد أصاب أم أخطأ)، وكانت قضية الفقيه الصوفي الشهير الحسين بن منصور الحلاج قبل 11 قرنا هي أكبر وأشهر محاكمة بتهمة ازداء الدين منذ ظهر الإسلام، وانتهت المحاكمة بإعدام الشيخ صلبا على باب خراسان في بغداد، حيث تم جلده ألف سوط، وتقطيع يديه ورجليه، ثم فصل رقبته عن جسده وصب النفط عليه وحرقه وذر الرماد المتبقي منه فوق نهر دجلة.
طبعا مثل هذا العقاب، لم يعد مقبولا من أي سلطة رسمية في المجتمع الدولي المعاصر، لذلك تضطر السلطة في مصر أحيانا إلى احتواء غضب الشارع، والظهور بمظهر المدافع عن الإسلام، فتصدر أحكاما قضائية بالسجن أوالغرامة في قضايا ازدراء أديان، كما في قضية علاء حامد صاحب «مسافة في عقل رجل»، وكرم صابر مؤلف قصص «أين الله؟»، وقليل من صغار الكتاب والمدونين، وكما يحدث الآن في الضجة المثارة حول إسلام بحيري وبرنامجه، وعموما يظل العقاب في إطار لعبة توازنات تستهدف إرضاء الغاضبين وإخضاعهم في نفس الوقت، ولما انكشفت حيلة التوازنات انفرط العقاب من يد السلطة، وخرج من المسار الرسمي إلى الشارع، وبدلا من التهديد بالسجن بادرت جماعات الوصاية (غير الرسمية) بتصعيد العقاب إلى الإزاحة التامة، كما في حادث خطف وقتل وزير الأوقاف الاسبق الشيخ محمد الذهبي بتهمة خروجه عن الدين، وقتل الباحث فرج فودة بسبب مؤلفاته عن التاريخ الإسلامي، وطعن نجيب محفوظ في رقبته بسبب روايته «أولاد حارتنا»، وهذا ينقلنا إلى مناقشة المسار الثاني في المقال المقبل بإذن الله
[email protected]