x

أنور الهواري القاهرةُ وفلسفةُ العاصمة الجديدة أنور الهواري الإثنين 23-03-2015 20:58


أنقلُ لكم ما كتبه الدكتور جمال حمدان، تحت هذا العنوان، فى المجلد الرابع من موسوعته: شخصية مصر، دراسة فى عبقرية المكان.

أولاً: التفكير فى ترك عاصمة قائمة- مهما كانت مُرهَقَة أو مُرهِقة ومُحبَطة أو مُحبِطة- إلى عاصمة جديدة مسألةٌ ليست بالهينة، وتحتاج إلى مراجعة مُعمَّقة جداً، وإلى ميزانية دقيقة للغاية لحسابات الأرباح والخسائر، ليس فقط علمياً أو تخطيطياً، ولا اقتصادياً أو مادياً فحسب، ولكن أيضاً سياسياً وقومياً، محلياً وعالمياً.

ثانياً: العواصمُ لا تولد بين يوم وليلة، ولا تنشأ بأمر عال ولا فرمان همايونى، وإنما هى تنبثق استجابة لضرورات طبيعية، وتخضع- فى دورة حياتها- لقوانين وضوابط طبيعية، وإلا فشلت وأفلست.

ثالثاً: القاهرة لم تنشأ وتتضخم- حيثُ هى- كمجرد نبت شيطانى أو كعش الغراب الطفيلى، ولا لأسباب عشوائية أو بمجرد قرار أو مرسوم بيروقراطى، وإنما موقع القاهرة هو المحصلة النهائية لآلاف السنين من التجربة والخطأ، ونتيجة لعملية فرز جغرافى وجيوبوليتيكى قاسية ومُفعمة، طولُها خمسة آلاف سنة هى عُمرُ مصر، وعرضُها ألف كيلومتر هى أبعادُ الوادى. إنها الخلاصة الصافية لكل تاريخ مصر الألفى وجغرافيتها المُقطَّرة المُرشَّحة.

رابعاً: وبوضوح كامل، فليس فى مصر مكان تُحكَم وتُدار منه أصلح من موقع القاهرة. وإذا كانت هذه المنطقة- القاهرة- هى أقدم وأطول مواقع عاصمتنا عُمراً، بحيث كانت العاصمة الطبيعية لمصر خلال معظم تاريخها الوطنى، فليس ذلك بالصدفة أو عبثاً، ولكن بقوة قوانين أنثربولوجية عقلانية وقوى طبيعية منطقية حاكمة. بل ليس فى الدنيا عاصمة أكثر طبيعية ومنطقية من موقع القاهرة، لا جغرافياً ولا تاريخياً، كما يحدثنا جغرافى عظيم- غير قاهرى ولا مصرى- هو عالم الجغرافيا البريطانى «ددلى ستامب».

خامساً: هذا عن القاهرة كعاصمة قائمة بالفعل. أما عن فلسفة العاصمة الجديدة فإن فى العالم عواصم جديدة كثيرة أُنشئت عمداً لأسباب مختلفة وكمبادئ أو فكريات معينة. من ذلك الفلسفة الأمريكية فى نظرية «العاصمة الضئيلة Inferior Capital» حتى لا تطغى على الاتحاد وحتى لا يطغى عليها الاقتصاد. من ذلك أيضاً استباق أو حث التعمير فى الأراضى البكر من الدولة، مثل برازيليا عاصمة البرازيل الجديدة. كذلك ففى دول أفريقيا الوليدة عشرات من مشاريع العواصم الجديدة، ولو أن بعضها تم التراجع عنه حيث هدَّد بإفلاس الدولة.

سادساً: وينبغى أن يكون مفهوماً أن معظم هذه العواصم الجديدة تعانى من صعوبات خانقة ومشكلات كبرى، فهى باهظة التكاليف بقدر ما هى محدودة الفرص، الحياة فيها صعبة قاسية، واحتمالاتُ فشلها أكبر من نجاحها، كما أن العواصم القديمة تحاربها وترفضها، والكل يصمها بأنها- فى الأغلب- مصطنعة ملفقة، تعيش على الحقن الدائم من جانب الدولة، وعلى عمليات نقل الدم المستمر، أو تحت خيمة أكسجين أو صوبة زجاجية محمية بلا انقطاع.

سابعاً: بعضُ هذه العواصم الجديدة لا يعدو الدافعُ إليها أن يكون نوعاً من الترف، والأبهة السياسية، ومركبات العظمة المظهرية الباذخة، كما أن بعضها الآخر يُعدُّ مضاربات مدنية فاشلة.

ثامناً: فى جغرافية المدن، إذا أردنا فصل الخطاب، فإن العواصم السياسية نوعان أو نمطان: العواصم الطبيعية أو العواصم الاصطناعية.

الأولى: نبتٌ ونموٌ تاريخى طبيعى، وتُعدُّ مركز النواة البشرية العمرانية الحقيقية فى الدولة، ومن ثم المدينة الأولى ذات المجد والهيبة والعراقة بها، إنها عواصمُ البلاد القديمة الناضجة، والدولة هنا- فى الغالب- موحدة وليست اتحادية، أما العاصمة فمتعددة الوظائف ومتوازنة اقتصادياً.

من أمثلة هذه العواصم: لندن وباريس وروما وبغداد ودمشق، ولكن يقيناً- فوق الكل وقبل الجميع- القاهرة.

الثانية: العواصم الاصطناعية، وهى «عواصم بالأمر Fiat Capitals»، بلا جذور تاريخية، بلا سيادة اقتصادية، ضئيلة الحجم غالباً، أحادية الوظيفة بصرامة دائماً، فهى مدينة سياسية صرف، ومن ثم مختلة التوازن اقتصادياً، إنها عواصم البلاد الجديدة البكر أساساً، حديثة النشأة والتعمير.

آخرُ الكلام: نكتفى اليوم بهذه المقدمة النظرية العامة، وسيادتك لن تصدق ما ستقرؤه غداً إن شاء الله، وسوف تقول: يا سبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وتتساءل: هو جمال حمدان كان مكشوفاً عنه الحجاب حتى يكتب لنا عن هذه العاصمة الجديدة التى فوجئنا وبوغتنا بها من شرم الشيخ؟ هل كان مكشوفاً عنه حجابُ الغيب ليقول: إنها قد تتحول- فى النهاية- إلى قطعة من المضاربة العقارية الفاشلة الخاسرة؟!

آل على رأى معتز الدمرداش: خليكوا معانا اوعوا تروحوا فى حتة تانية!

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية