العمارة هى أكثر التعبيرات البصرية أهمية عن نظام سياسى واقتصادى واجتماعى وثقافى بعينه؛ ولا يوجد مثل «العاصمة» ما يجعل ذلك عنوانا فى دولة ما. من هنا فإنه لا توجد مفاجأة فى أن نظام ما بعد ثورات القرن الواحد والعشرين فى مصر وضع فى برنامجه الطموح لنهضة مصر قيام عاصمة جديدة حتى ولو كانت «إدارية». وللحق فإن فيما عرفناه حتى الآن عن «كابيتال كايرو»، وأظن ذلك اسما مؤقتا حتى نستقر على اسم جديد، تمثل من حيث موقعها، ونمط العمارة فيها ثورة فى حد ذاتها. فلأول مرة فى تاريخ مصر القديم جدا، سوف تقام عاصمة بعيدا عن النيل اللهم إلا فى فترة قصيرة- فقط بضعة قرون يونانية ورومانية!- حصلت الإسكندرية على هذا الشرف. ما عدا ذلك فقد كانت «طيبة»- الأقصر الحالية- و«منف»- الجيزة حاليا، هما عاصمتى مصر على مدى ثلاثة آلاف عام (تل العمارنة قصيرة العمر فى عهد إخناتون تدخل ضمن هذا التصنيف فى قربها من النيل). وعندما فتح العرب مصر أقاموا «الفسطاط» وبعدها «القطائع» وبعدها «القاهرة» وكل منها كان امتدادا وتوسعا فى ممفيس/ منف القديمة. ولم يكن ذلك صدفة، لأن مصر- دولة القطرين- كان لا بد لها أن تحكم عند تلك النقطة الحاكمة بين الدلتا وجنوب الوادى. والتقى على ذلك الفراعنة والملوك والولاة، وفى عهد الخديو إسماعيل أقام القاهرة «الخديوية»، ومن بعده قامت مصر الجديدة، ثم مدينة نصر، و٦ أكتوبر والقاهرة الجديدة فى العصر الجمهورى، وكلها فى أحضان «القاهرة الكبرى» التى هى فى حضن النهر الخالد.
الثورة فى جانبها الآخر اختارت نمطا للعمارة «ألترا مودرن»، فى نسخة أخرى من مدينة دبى الجميلة، وهى نسخة طبيعية نشأت فى بيئة شابة صحراوية وجديدة وعلى ساحل الخليج ومن ثم أخذت أحدث ما عرفه العالم من تكنولوجيا وفن للعمارة وأقامته. مدينة كهذه حسناء ومطلوبة فى ذاتهاو ولكن للعواصم «نكهة أخري»، تماما مثل مدن دالاس أو لاس فيجاس أو هيوستن فى الولايات المتحدة، ولكن ذلك يختلف جدا عن نيويورك أو شيكاغو وبالتأكيد واشنطن. فى مثل هذه المدن الأخيرة فإن للتاريخ معنى، ولفلسفة الحكم حكمة. انظر إلى القاهرة بسوء حالتها، وجولة الفوضى فيها، وقذارتها المستعصية على النظافة والفهم، لا يمكنك إلا أن تجد فيها تلك التركيبة الفرعونية الإسلامية الهلينية الرومانية المملوكية الإمبراطورية الملكية الجمهورية. هى نكهة، أحببتها أو لم تحبها، تميزها عن كل مدن العالم، ولا تملك حيادا تجاهها لأن مكاناً على النيل سرت فيه، أو أن مقهى جمعك مع أصدقاء وخلان، وحتى فى أماكن «الحداثة» فإنك لا تملك إلا الشعور بأنها امتداد للقديم بصورة أو بأخرى. فلا بأس أن تجد «أبوالسيد» فى قلب الزمالك، بينما تجد «لابوار» فى حى القلعة أو الجمالية أو مصر القديمة.
ولكن ربما كان علينا أن نميز ما بين مدينة جديدة والعاصمة؛ فكم تمنيت أن تقام مدينتان لدبى فى مصر، واحدة فى سفاجا، والأخرى فى العلمين، على بحرين أوسع بكثير من الخليج، ولكن أن تكون «عاصمة» فربما يحتاج الأمر نقاشا آخر، أرجو ألا يكون متأخرا بعد أن جاء العزم وعقدت النية. وموعدنا الثلاثاء؛ فللحديث شجون كثيرة.