x

أنور الهواري مارس 1919م: تحيا مصر أنور الهواري الأحد 15-03-2015 21:14


هُنا وُلد الهتافُ الخالد: نموتُ ويحيا الوطن، تحيا مصر.

وُلِد من رحم الثورة الخالدة، من دماء الفئة الطاهرة، من أعماق القلوب النقية، طلاب مصر، وقود الوطنية فى كل ثورة.

بدأت المظاهرات فى القاهرة فى 9 مارس، ثم شملت مدن الوادى وقُراه، تغلغلت روحُ الوطنية فى نفوس الشعب، انتهت مظاهرات اليوم الأول باعتقال ثلاثمائة من الطلبة.

وكان الذين يسيئون الظن فى وطنية هذه الأمة يعتقدون أن هذا الإرهاب الذى يمارسه الاحتلال كفيلٌ بإخماد الحركة فى مهدها، وأخذوا - فى صحفهم المناصرة للاحتلال - يوجّهون إلى الشباب نصائح معكوسة، يحثونهم على الخضوع والاستسلام تحت ستار الإشفاق على مستقبلهم، ولكن تلاشت هذه الظنون أمام استمرار المظاهرات.

بدأت سُلطةُ الاحتلال تتصدى للمتظاهرين بالرصاص من يوم 10 مارس، فلم يرهب الناسَ القتلُ، وأخذوا يألفون رؤية الدم المسفوك فى الشوارع، وتقبَّل الشعبُ بشبابه وسائر طبقاته التضحية بلا خوف ولا تراجع، فارتفع صوتُ مصر عالياً فى أرجاء العالم، وأخذت الصحف - التى كانت تمالئ الاحتلال وتزدرى الأمة - تغير من أسلوبها وتتملق الشعب وتكتب عن مطالبه الوطنية بلهجة جديدة ملؤها الإعجاب والتقدير.

يحكى المؤرخُ العظيم عبدالرحمن الرافعى مشاهداته عن الأيام الأولى من ثورة 1919م فيقول:

رأيتُ الجماهير يشتركون فى المظاهرات، لا يبالون بما يستهدفهم من أخطار، كانوا يواجهون رصاص البنادق والمدافع الرشاشة بشجاعة لا تقل عن شجاعة الجُند فى ميادين القتال، وسقط الكثيرون منهم قتلى أثناء المظاهرات.

كان إذا سقط من يرفع العلم - فى مقدمة المظاهرة - مُضرجاً فى دمائه، يقدم غيرُه ليرفع العلم بدلاً منه، مُنادياً بحياة الوطن: تحيا مصر، فيردد المتظاهرون النداء من ورائه.

كان الجرحى من الطلاب لا ينفكون ينادون بحياة مصر، والدمُ ينزف منهم، وكثيراً ما شاهد المارة سيارات الإسعاف تحمل جريحاً فى مظاهرة يسيلُ دمه، ومع هذا يطلُ على الناس - من سيارة الإسعاف - وينادى: نموتُ ويحيا الوطن.

وتبدلت حالةُ الشعب النفسية بتأثير الثورة، وحاكى فى التضحية أرقى الأمم وطنيةً وإخلاصاً.

قبض رجالُ البوليس على جماعة من الطلبة المتظاهرين، وساقوهم إلى القسم واعتقلوهم به، فتقدم جميعُ الطلبة إلى البوليس، وطلبوا أن يُقبض عليهم مثل زملائهم المعتقلين، لأنهم اشتركوا معهم فى المظاهرات التى يعتبرها البوليس جريمة، ولأنهم لا يريدون أن يختص المُعتَقَلون - وحدهم - بشرف التضحية والألم فى سبيل الوطن، وكان لهذا التضامن البديع أثرٌ بالغٌ فى نفوس الشعب.

ثم يحكى المؤرخُ العظيم فيقول: ومن المشاهد التى أثرت فى نفسى مناظرُ جنازات الشهداء:

فقد كانت هائلة حقاً، كانت الجموع تسير دون أن يعرف المشيعون بعضهم بعضاً، كان يكفى أن يذاع أن جنازة أحد الشهداء ستشيّع فى ساعة ما، فى مكان ما، حتى يجتمع الألوفُ من الناس، من مختلف الأوساط والطبقات، يعلوهم الحزنُ العميق، لم تكن تسمع فيها لاعويلاً أو نحيباً، بل كنا نرى جلالاً وخشوعاً، وحُزناً رهيباً، يتخلله الهتاف بين آونة وأخرى بحياة الشهداء، وضحايا الحرية، فكانت هذه الجنازات مظاهر رائعة لتقدير الشعب لمعانى البطولة، كانت بعثاً جديداً، لحياة جديدة.

كان الظنُّ، عندما وقعت حوادثُ الثورة الأولى، أنها مقصورةٌ على العاصمة، ولكن لم تلبث أن غمرتنا الأنباءُ من مختلف الأقاليم، بأن مظاهرات قد قامت فيها، على غرار مظاهرات القاهرة، وزاد عليها قطعُ السكك الحديدية، وشهدنا - بأعيُننا - انقطاع المواصلات بين العاصمة والأقاليم، كما انقطعت بين أحياء القاهرة نفسها، فأدركنا أننا أم ثورة عارمة، شملت البلاد من أدناها إلى أقصاها.

تتابعت حوادثُ الثورة، وارتسمت - فى ذهنى - صورةٌ واضحةٌ عنها، وأدركتُ - مع الأيام - عِظم مداها.

شعرتُ - أمام هذه المشاهد - بغبطة كبيرة تتملكنى، أدركتُ أن روح الحياة قد سرت فى الأمة، وأنها أخذت تنفض عنها أكفان الخضوع والاستسلام.

رأيتُ - فى اتساع الحركة ووحدة الصفوف تحت لوائها - تحقيقاً للوحدة التى طالما كنا ننشدها ونتمناها.

كما رأيتُ - فى تعدد مظاهر التضحية - نجاحاً لدعوة الإخلاص فى الجهاد، التى هى أساسُ كل نهضة قومية، وسبيلُ النجاح لكل أمة تريدُ - لنفسها - الحياةَ والعِزَّة.

والحديثُ مُستأنفٌ.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية