فى مثل هذا اليوم من عام 1964 م، رحل العملاق، متعدد المواهب والمعارك، واسع العطاء، عباس محمود العقاد.
عاش فقير اليدين من المال، عرف الجوع والفاقة، لم تنكسر نفسُه، لم تنهزم إرادتُه، صمد فى وجه الليالى العابسة، رفع قامته فوق المحن. قضى حياته -فى صحبة العلم والفكر والكتابة والنضال والأدب، لم يتخذ صاحبةً، ولم يُعقب بنتاً ولا ولداً، وإنما أعقب تراثاً يخلده بين عظماء الإنسانية.
لم يجد النعمة التى عاش فيها أمثالُه الكبار من أبناء الطبقات المستريحة: أحمد شوقى، أحمد لطفى السيد، محمد حسنين هيكل، أحمد أمين، مصطفى صادق الرافعى، سلامة موسى، الشيخ مصطفى عبدالرازق، توفيق الحكيم، عبدالرحمن بدوى، بل لم يكن عنده الذكاء الاجتماعى الذى تميز به فقيرٌ مثله- طه حسين- فعطف عليه قلوب من ساعدوه وأخذوا بيديه، بل لم تكن عنده خصال الوسطية التى مكَّنت فقيراً مثله- عبدالرازق السنهورى- من الجمع بين بلوغ القمة والتمتع بنصيبه من الحياة.
تحت عنوان: «بين الأمل واليأس»، يسجل العقاد عنت أيامه وبؤس لياليه، وهو فى مسقط رأسه أسوان، ثم وهو يسكنُ قريةً على أطراف مدينة الزقازيق، ثم وهو يسكنُ فى حدائق القبة، ثم وهو يضطر- بسبب الفقر- للعودة إلى أسوان، حيث ترتفع معنوياتُه عند وصوله إليها، وعند لقائه بأهله وناسه، ولكن ما يلبث أن يدب فى نفسه الضجر والملل إلى حدود اليأس، بل إلى حدود تمنى عندها لو أدركه الموتُ العاجل.. يقول:
«وصلتُ إلى أسوان كالساهر الذى طوى الليالى وصالاً بغير راحة، ثم ركن- بجنبه- لحظة واحدة إلى طرف الفراش. كُنتُ أجورُ على جسدى، ولا أعرف لهذا الجور حدوداً يرجع عنها، لأن تلك الحدود لم تصدمنى- قط - بصخرة من صخورها، ولا بحاجز من حواجزها».
«وكُنتُ أحضر ندوة الزملاء عند ميدان المديرية بالزقازيق، ثم أعبر المدينة- فى ليالى الشتاء- إلى مسكنى على حافة كفر الصيادين، فلا أكترثُ للمطر ولا للبرد، ولا ألبس المعطف ولا أحمله، وهو معلقٌ فى حجرة الدار، يعلوه الغبار».
«وكنتُ أقضى اليوم- فى حدائق القبة- على وجبة واحدة من الخُبز والجُبن، أو من الخُبز والفول، ولا يخطر على بالى أن إهمال الغذاء ضررٌ أذكره لحظة بعد ذهاب الجوع».
«وكُنتُ أفتحُ الكتاب الجديد، فيروقُنى ما قرأتُه فيه، فلا ألقيه من يدى، حتى أفرغ منه آخر الليل، ولا ضياء فى البيت غير شمعة أو مصباحٍ ذى فتيل».
«وقد وقع فى خَلدى أننى أزدادُ نشاطاً فى بلدتى- أسوان- لأنها مصحةٌ للجسم ومصحةٌ للنفس، بين الأقرباء والأعزاء، فعجبتُ- بعد أيام- حين رأيتُنى أفقدُ النشاط لأيسر الأعمال، وكُنتُ أحسبُه- أى النشاط- تياراً متجدداً لا يقبلُ النفاد».
«تجمعت المتاعبُ دُفعةً واحدة، وبدا لى كأننى مريضٌ بكل داء معروف وغير معروف، ولا مرض- فى الحقيقة- غير الركود والإعياء، بإجماع الأطباء».
«وتملكتنى فكرةُ الموت العاجل، فأدهشنى أننى لم أجد- فى قرارة وجدانى- فزعاً من فكرة الموت العاجل، وكِدتُ أقولُ- لنفسى- إننى أطلبُها، ولا أنفرُ منها».
«وأخالُ أن صدمة اليأس كانت أشد على عزيمتى، من صدمة المرض، ومن صدمة الإعياء».
«وأشدُّ ما أصابنى، من هذا اليأس، أنه كان يأساً من جميع الآمال، ولم يكن يأساً من أمل واحد». انتهى الاقتباس من الأستاذ العقاد.
كانت فكرتى، عندما نويتُ الكتابة فى ذكرى العقاد، أن أركز الحديث عن علاقة الإعجاب المتبادل التى جمعت بينه وبين سعد زغلول، إذ يتزامن رحيلُ العقاد مع ذكرى الثورة المصرية العظيمة، ثورة 1919 م، ثم رأيتُ أن أكتب هذه المقدمة، فى إطلالة خاطفة، على ما يدرك أنفس الكبار والعظماء من لحظات ضعف ووهن، تكفى لإسكات غيرهم ولكنها تُنطقهم، تكفى لقتل غيرهم ولكنها تُحييهم، تكفى لإيقاف مسيرتهم فى العطاء ولكنها تكشفُ عما فى أعماقهم من قدرات فائقة على التحدى والقيام من كل عثرة فى النفس، أو من كل كبوة فى العزيمة، مهما كانت جفوة الأيام معهم، ومهما كانت قسوة الليالى عليهم.
خُلاصةُ الكلام: الدرسُ كبير وبليغ، من الوارد أن يصل اليأسُ بالفرد أو بالمجتمع إلى أسوأ أشكاله جهامةً وأشد مذاقاته مرارةً، ولكن يبقى لدى الإنسان- كل الإنسان- طاقة جبارة قد لا يعلمها، وقدرة فائقة قد يجهلها، تكفيه ليرتفع فوق كبوته، وتكفيه لينتصر على خطوبه، وتكفى مجموع الأمة لتواصل مسيرتها فى التاريخ، فتُشرق قلوباً وعقولاً وإقداماً وتفاؤلاً وعزماً، كلما أشرق الصباح، وكلما أرسلت الشمسُ نورها ليبدد ما ران من ظلام فوق العقول وفى طوايا النفوس.
عندى يقينٌ: اللحظات التى تمنى فيها العقاد الموت العاجل تحت ضغط اليأس الطارئ، هى اللحظات- نفسها- التى أخرجت من أعماقه هذه الموهبة المصرية الجبارة على مقاومة الفناء، ثم على تأكيد البقاء، ثم على التربع المطمئن فى سجل الخالدين.
الحديث مستأنف.