التاريخ 14 ديسمبر 2014.. الدكتور عادل البلتاجى وزير الزراعة يطلب تجهيز حقيبة لسفر طويل برفقة العالم المصرى الكبير الدكتور فاروق الباز، لاستكشاف مناطق ما يطلق عليه «ممر التنمية».
تفحص العالم الكبير ووزير الزراعة مع 10 علماء من مختلف المراكز البحثية مناطق واسعة يشملها المشروع لمدة تجاوزت 12 ساعة متواصلة، تخللها تدوين الملاحظات، واستخدم الباز كاميرته الشخصية فى التقاط عشرات الصور لتوثيق نوعيات الصخور التى صادفتنا أثناء الجولة، واستعان العلماء بأجهزة دقيقة لتحديد تصنيف التربة ودرجات الملوحة، وصور للأقمار الصناعية.
أثناء ذلك تحدث الباز ومرافقوه عن الجانب التاريخى للمنطقة، وأسهب العالم الكبير فى سرد الحقائق العلمية حول نهر النيل قديمًا وحركته حتى وصوله إلى وضعه الحالى، كاشفا تحول الأحلام إلى حقائق عبر البحوث العلمية والاكتشافات.
بعد انتهاء الجولة الميدانية وإنجاز معظم الحوار على أرض الواقع، جاءت المرحلة الثانية فى لقاء منفرد فى ديوان عام وزارة الزراعة، فى إحدى الغرف البسيطة، مساء الإثنين الماضى، لاستكمال ما بدأناه فى الرحلة الشاقة فى كوم أمبو، وكان هذا الحوار:
■ يتكون مشروع ممر التنمية من عدة محاور، أهمها مشروع غرب كوم أمبو، ماهى تفاصيله؟
- يمتد المشروع فى السهل الواقع غرب النيل ما بين الأقصر شمالا وأسوان جنوبا حتى هضبة «سن الكداب» غربا، ويسمى سهل الجلابة، هذه المنطقة واعدة للتنمية الزراعية وذلك من منظور جيولوجى وتنموى وتتوافر بها كل المعايير المطلوبة، من بين هذه المعايير قربها من نهر النيل، ومساحة السهل الشاسعة المنبسطة كما أنه يمر بها طريق الظهير الصحراوى الذى يربط جنوب المنطقة بشمالها إضافة إلى العديد من الطرق العرضية التى تصل شرقها بغربها ويمر بها أيضاً خطوط الكهرباء من السد العالى.
■ رغم الهجوم على المشروع إلا أنك لا تزال مصرا عليه؟
- الهجوم على ممر التنمية لا يغضبنى، لأن الهجوم وارد على الأفكار العلمية التى تحتمل وجهتى نظر مؤيدة ومعارضة. والضوء الأخضر والموافقة على مثل هذه الأفكار يكون من خلال العلم والمعرفة وإمكانية التطبيق، كما أن قدرة العلم تكمن فى تطبيقه وتحقيقه أهداف التنمية. وطموحاتى فى تحقيق التنمية الكبيرة ليس لها حدود، رغم كل الانتقادات لأن المشروع سيحقق نقلة حضارية واجتماعية واقتصادية لمصر فى حالة تنفيذه، كما أنه يستهدف تحقيق «خلخلة» فى التكدس السكانى فى الدلتا ووادى النيل، بينما تستعد الحكومة لعرض مشروع استصلاح 750 ألف فدان على الرئيس عبدالفتاح السيسى لاختيار بعض المساحات منه ضمن مشروع المليون فدان، أو إدراجه فى خطة الدولة لاستصلاح 4 ملايين فدان حتى عام 2030.
■ وهل تستهدف زراعة كامل هذه المساحة؟
- المشروع لا يستهدف زراعة إجمالى الـ 750 ألف فدان، ويمكن الاكتفاء بزراعة 500 ألف فدان، بينما يتم استغلال باقى المساحات فى إقامة مناطق للتصنيع الزراعى، وأخرى سكنية فى صورة قرى ريفية تخدم الزراعة وتستفيد من منتجاتها. كما كشفت الدراسات الفنية التى قمنا بها بمشاركة جهات تحظى بالاحترام مثل وزارة الزراعة ممثلة فى علماء مركز بحوث الصحراء، والدكتور عبدالعزيز شتا استاذ الأراضى بجامعة عين شمس وعدد من العلماء بالجامعات المصرية، بالإضافة إلى فريقى البحثى، ومنهم الدكتور أحمد جابر الأستاذ بجامعة قناة السويس الذى وضع هدفا واحدا وهو الاستفادة من الميزة النسبية والخيرات التى تحتويها الأراضى المصرية خارج الدلتا ووادى النيل.
■ وما هى مميزات المنطقة؟
- غرب كوم أمبو تتميز بالتربة الصالحة للزراعة والاستواء طبقا للاختبارات التى تم إجراؤها، بالإضافة إلى أن الخزان الجوفى بها يستفيد من قرب نهر النيل منه، لدرجة أن مياه النهر تتسرب منه إلى المنطقة.
■ هل عرضت مشروع ممر التنمية على مبارك وحكومات ما بعد ثورة 25 يناير؟
- تم عرضه أثناء فترة مبارك، الذى حاول تكميم المشروع وخنقه، وماكنش فاهم معناه ومدلوله، وأثق أن الرئيس عبدالفتاح السيسى يقدر المشروع.
■ ننتقل إلى مشروع الاستصلاح فى منطقة غرب كوم أمبو؟
- تم الانتهاء من الدراسة الفنية للتربة، وتصنيفها وتحديد نوعيتها، ويجرى حاليا تقييم المياه الجوفية وإمكاناتها، ودراسات سمك الرسوبيات باستخدام الرادار، ومن المقرر أن يتم الانتهاء من هذه الدراسات خلال 6 أشهر على الأكثر، وعندها نستطيع أن نستعد للخطوة الثانية من المشروع وهى مراحل الإعداد لتنفيذ المشروع وهنا يأتى دور الدولة.
■ وماذا عن العاملين فى المشروع؟
- تم إعداد فريق بحثى مشترك بين جامعات بوسطن وبورسعيد وقناة السويس بجانب الهيئة القومية للاستشعار من بعد وعلوم الفضاء التى قامت بدراسة منطقة سهل الجلابة فى عام ٢٠١٠، والبحث عن أماكن جديدة واعدة يمكن تنميتها دون استنزاف لمياه النيل كأول المحاور العرضية على مسار ممر التنمية. وبدأ الفريق فى دراسة منطقة سهل الجلابة وقتها بدعم مالى من صندوق العلوم والتنمية التكنولوجية المصرى مستخدمين فى ذلك أحدث المعلومات الفضائية الرادارية والحرارية والمسح الجيوفزيائى الأرضى بغرض التصوير السطحى وتحت السطحى للمنطقة. وشمل ذلك التعرف على طبيعة الرواسب السطحية بها ومدى جودتها للاستخدام الزراعى وتحديد الأماكن الواعدة لتجميع المياه الجوفية من أجل إقامه المدن والقرى والزراعة من حولها.
■ وما أدوات الدراسة الفنية لمنطقة مشروع كوم أمبو؟
- اعتمدت الدراسة أولا على التصوير الرادارى والحرارى من الأقمار الصناعية للكشف عما هو تحت سطح الأرض وما تغطيه رمال الصحراء الجافة. وأثبتت المعلومات الفضائية وجود صدوع وفوالق مدفونة تعمل كممرات للمياه الجوفية وتوصل ما بين خزان المياه الجوفى بالمنطقة ونهر النيل شرقا وبحيرة ناصر جنوبا وهضبة سن الكداب غربا. وتعتبر هذه الصدوع والفوالق المدفونة مواقع متميزة لتجميع مياه الأمطار أثناء مواسم المطر. وقد تم التأكد من وجود تلك الصدوع والفوالق بعد عمل مسح حقلى باستخدام جهاز الرادار الأرضى والتصوير المغناطيسى، وتم أيضاً أخذ عينات مياه من الآبار المحفورة فى المنطقة وبعد تحليلها تبين أنها صالحة لزراعة المحاصيل الزراعية وليس بها أى عناصر نادرة قد يكون لها أثر سلبى على النبات أو الإنسان.
■ ولكن الدراسة الفنية وحدها لا تكفى لإثبات نجاح المشروع؟
- فعلا.. وهو ما سيتم متابعته بدراسة اقتصادية، قبل أن تطرحه الدولة للاستثمار، لأن لغة الأرقام توضح حدود المشروعات وأهدافها. التقديرات المبدئية أن تصل تكلفة المشروع الاستثمارية إلى 24 مليار دولار، فى صورة استثمارات زراعية وتصنيع زراعى ومناطق سكنية وعمرانية تلبى كافة أغراض التنمية، ضمن محور التنمية، بالإضافة إلى توفير آلاف من فرص العمل.
■ لماذا تركز على تنمية منطقة غرب كوم أمبو؟
- التخطيط للتنمية غرب النيل فى منطقة غرب كوم أمبو، يستهدف أن تخطط الدولة لنزوح عدد كبير من أبناء الصعيد «الجواني» من إدفو وإسنا حتى أسوان، وذلك بأن تكون لهم فرص لإقامة قرى ومصانع ومخازن وكل ماهو مرتبط بالزراعة، لكى تتحول القرية إلى مناطق إنتاج وليست استهلاكا، لأن النزوح يجب أن يكون باتجاه الغرب إلى الأماكن الجديدة، وهو فركة كعب، من خلال تحقيق التنمية رأسيا وأفقيا.
■ ننتقل إلى تفاصيل أكثر؟
- نجاح المشروع الزراعى يرتبط باختيار التركيب المحصولى المناسب لكل منطقة لزيادة العائد من الموارد المائية والأرضية، والبدائل المحصولية، وضمان تحقيق الاستدامة منها، والانتقال إلى مجتمعات متكاملة زراعيا وصناعيا، مع الالتزام بالتحديد الدقيق للمساحات التى يمكن استصلاحها، كما أن الدراسات التى تم تنفيذها على منطقة غرب كوم امبو اعتمدت على بيانات البيئة الطبيعية الخاصة بالمنطقة مثل بيانات المناخ وعناصره، وشبكة الطرق وقرى التوطين المقترحة وتحديد موقعها بالنسبة للمساحات التى سيتم استصلاحها، والاستعانة ببيانات آبار البترول العميقة لاستكمال دراسات المياه الجوفية العميقة فى منطقة مشروع كوم أمبو.
■ لكن هل هناك مؤشرات حالية عن حالة الخزان الجوفى حتى يتم التأكد منها؟
- مؤشرات الخزان الجوفية تقول إن المياه الجوفية السطحية على أعماق قريبة من السطح تتراوح بين 45 و 70 مترا وذلك فى مناطق سهل الجلابة. ومناطق غرب كوم أمبو المياه يتراوح عمق المياه بها بين 50 و70 مترا من السطح، وهناك آبار تم إنشاؤها لعمق يصل إلى 200 متر، والملوحة فى بعض الآبار تصل إلى 600 جزء فى المليون.
■ وهل تم تدقيق هذه الأرقام فى دراسات المشروع؟
- التحقق من الدراسات تم من خلال دراسة ميدانية، قام بها العلماء فى مجالات البحث سواء التربة أو المياه، بالإضافة إلى وثائق وبحوث مبدئية، وهو ما تم مشاهدته من خلال مزارع العنب والكنتالوب والطماطم فى أماكن متفرقة من غرب كوم امبو، رغم أنها مزارع «عشوائية»، ويجب أن يتم وضع الضوابط اللازمة لها من خلال إشراف الدولة لضمان كفاءة استخدامات الأراضى.
■ ولكن ما هى الدلائل التاريخية لإمكانية الاستصلاح فى هذه المنطقة؟
- مياه النيل كانت موجودة قبل آلاف السنين، وكان النيل يجرى من الشرق إلى الغرب، وكانت مصر منبع ومصب النهر وقتها حيث كان يطلق عليه نهر الجلف، والذى يمتد من جبال البحر الأحمر حتى منطقة سيوة، ثم تحول إلى نهر قنا والذى كان يسير من الشمال إلى الجنوب، وأخيرا نهر النيل الحالى من الجنوب إلى الشمال. وأثار التماسيح فى منطقة غرب كوم أمبو توضح أنها كانت مغمورة المياه، والزلط والجرانيت فى منطقة غرب كوم أمبو تم نقله من الصحراء الشرقية، عن طريق مياه النهر القديم «نهر الجلف»، واتضح من الدراسة أن المنطقة عبارة عن سهل فيضى ومعظم رواسبة نهرية قديمة أى قبل مسار النيل الحالى، وأنها كانت عبارة عن رواسب مروحية لنهر قديم نابع من سلسة جبال البحر الأحمر فى الشرق ويسمى وادى خريطة، ويعتبر وادى الكوبانية غرب أسوان أحد بقاياه، كما أن سهل الجلابة هو امتداد غربى لمنخفض كبير يسمى منخفض «كوم أمبو»، ويوجد بهذا السهل الفيضى العديد من الشواهد التى توكد أن هذا السهل كان مغطى تماماً بالمياه فى قديم الأزل قبل وبعد تكون مسار نهر النيل الحالى، وتشمل هذه الشواهد العثور على بقايا تماسيح متحفرة بالقرب من الهضبة الغربية وعلى بعد ٣٥ كيلو مترا من نهر النيل الحالى، كما يوجد أيضاً رواسب من الطفلة ذات سمك يزيد على ٣ أمتار تكونت فى بحيرات عذبة قديمة، والتى يمكن أن تستخدم حاليا فى تحسين التربة فى بعض الأماكن التى تحتاج إلى ذلك، وهو ما يؤكد أن هذه المناطق واعدة.
■ ولكنى لاحظت أنك تركز على كلمة الفريق البحثى؟
- بالتأكيد.. العلم جهد بحثى متكامل يقوم على العمل الجماعى والفريق البحثى فى هذه المنطقة قام بجهد كبير من أجل تدقيق البيانات والإحصاءات والتحاليل والتوصيف، وذلك بعمل دراسات مكثفة على طبيعة الرواسب السطحية ومدى صلاحيتها للزراعة.
■ كيف تم ذلك؟
- عن طريق استخدام أحدث التقنيات العلمية لمعرفة حجم حبيبات الرواسب السطحية وتقسيمها باستخدام صور الأقمار الصناعية الرادارية ومعرفة تركيبها الكيميائى عن طريق جهاز البصمة الطيفية. أثبتت الدراسة أن رواسب هذا السهل تتكون من طين ورمل وحصى بها نسبة من أكاسيد الحديد التى تطفى عليها اللون الأحمر وهى تشبه إلى حد كبير رواسب منطقة «الصالحية الجديدة» التى تعد نموذجاً جيداً للاستصلاح الزراعى فى مصر.
■ وماذا عن التنمية فى سيناء؟
- أجريت دراسات على منطقتين فى سيناء يمكن تنفيذ مشروعات للاستصلاح الزراعى بهما، ولكن ليس بنفس المساحات فى كوم أمبو، وسيناء تحتاج للتنمية نظرا للبعد الأمنى والاستراتيجى لها، سواء اعتمادا على نهر النيل، أو استغلالا لإمكانيات الخزان الجوفى فى منطقة «السرو والقوارير» حيث يمكن استصلاح وزراعة 35 ألف فدان، رغم أن المساحات الصالحة للزراعة تصل إلى 30 ألف فدان ولكن الذى يحكم استدامة التنمية الزراعية هو الموارد المائية واستدامتها».
■ وجنوب سيناء.. هل هناك فرص للاستصلاح نظرا لوعورة جبالها؟
- الدراسات توضح إمكانية أعمال إستصلاح محدودة فى منطقة وادى وتير، إعتمادا على مشروعات حصاد الأمطار والسيول التى تتعرض لها سيناء، وخاصة الجنوب، وهذا الوادى يمتد لأكثر من 40 كيلومترا، إلا أنها مساحة ضيقة وليست ضخمة.
■ وكيف يمكن استغلال هذه المساحات الصغيرة زراعيا؟
- يمكن أن يتم ذلك من خلال التركيز على الزراعة العضوية، لأنها تدر عائدا أكبر من الزراعات التقليدية وتحقق ربحا للمنتفعين بالاستثمار فى هذه المناطق لأن تربتها ممتازة.