لا أحد يثير الشك في الحقيقة المفزعة التي مؤداها أن مجندي الجيش العراقي اقتيدوا إلى خارج قاعدتهم لا يحملون سلاحا وقتلوا بالمئات برصاص مقاتلي تنظيم «داعش»، ودفنوا في مقابر جماعية في عمل تفاخر به مؤيدو التنظيم على الإنترنت.
كانت مذبحة مجندي الجيش خارج قاعدة سبايكر، في يونيو الماضي، لا سابق لها حتى بمقاييس عشر سنوات من الحرب الطائفية في العراق، وفجرت حالة من الذعر في البلاد، وبعثت برسالة للعالم مفادها أن مقاتلي هذا التنظيم السني هم عدو من نوع جديد يصر ليس فحسب على الاستيلاء على الأرض، والاحتفاظ بها وإنما أيضا على القضاء على أعدائه من الطوائف الأخرى عندما يسقطون في أيدي مقاتليه.
ويرى الناجون من المذبحة وأقارب القتلى، أن القتلة أنفسهم ليسوا الجاني الوحيد.فهم يلومون أيضا الحكومة وزعماء القبائل في محافظة صلاح الدين قائلين إنهم وعدوا المجندين بممر آمن من القاعدة إلى الجنوب لكن سمحوا باقتيادهم إلى حتفهم.
ويشكك مسؤولو الحكومة في هذه الروايات ويقولون إنه لم يكن هناك وعد بممر آمن وإن المجندين الذين لم يكونوا يحملون سلاحا تركوا القاعدة الآمنة رغم أوامر صدرت لهم بالبقاء.
لكن بعد مرور أكثر من شهرين على المذبحة فإن التقاعس عن تقديم صورة واضحة لما حدث أو حتى سجل بالضحايا يتسبب في تقويض الجهود التي تبذل لتشكيل حكومة يمكن أن توحد البلاد.
وقال الجندي حسن خليل الذي أفلت من القتل بعد أن مثل دور ميت بأن دفن نفسه تحت جثة «قادتنا هم السبب وراء أعمال القتل، أجبرونا على ترك سبايكر»، وأضاف من منزله بمدينة الديوانية التي تبعد ثلاث ساعات بالسيارة جنوبي بغداد «قادتنا أكدوا لنا أن الطريق آمن وأن القبائل تحرسه وطلبوا منا ألا نرتدي الزي العسكري، باعونا لـ(داعش)».
وقال محمد حمود، وهو ناج آخر عاد إلى الديوانية إنه يلوم «كل من قبائل صلاح الدين، وقادتنا العسكريين»، وأضاف «لو كان معنا سلاح لما كان أحد استطاع أن يستولي على سبايكر أو تكريت أو كل الأماكن القريبة منها، كنا أربعة آلاف ولم يكن ممكنا أن تواجهنا قوة، لكن تم بيعنا وخداعنا».
وتوجه أكثر من 100 من أقارب المفقودين إلى بغداد قبل أيام واقتحموا البرلمان غضبا من تقاعس الحكومة عن إبلاغهم بمصير أقاربهم.
وأخذ أقارب الضحايا يحطمون ما استطاعوا في مباني البرلمان وضربوا كل من اعتقدوا أنه نائب ورددوا هتافات تتهم المسؤولين والمشرعين بأنهم« لصوص وأنهم باعوا أبناءهم في صلاح الدين».
وقال رجل يدعى ابنه عقيل، 26 عاما، وهو مفقود: «نحن نسأل الحكومة والبرلمان ورئيس الوزراء المنتهية ولايته، كل مسؤول نافذ، أين أولادنا؟ إذا كانوا أحياء قولوا لنا، إذا كانوا ماتوا أعطونا جثثهم».
وفي غضون يوم من الاستيلاء على الموصل زحف مقاتلو «داعش»، نحو تكريت مدينة الرئيس الراحل، صدام حسين، عبر وادي نهر الفرات، واستولوا على المدينة سريعا من غير قتال تقريبا.
وعلى مشارف المدينة وجد آلاف الجنود العراقيين أنفسهم محاصرين داخل القاعدة الجوية التي لا تزال تعرف بقاعدة سبايكر نسبة إلى طيار في البحرية الأمريكية سميت القاعدة باسمه عندما كانت إحدى القواعد الرئيسية للجيش الأمريكي، حتى انسحابه في 2011.
وكان حمود ضمن مجموعة من 1500 مجند جدد أنهوا تدريبهم الأساسي. وعندما وردت أنباء زحف مقاتلي «داعش» في الشمال تم إرسال المجندين إلى قاعدة سبايكر لإعادة التجمع فيها.
ولم يكن المجندون مثل حمود تسلموا بنادق بعد. وعندما وصلوا إلى سبايكر، بحثوا في مخازنها عن أسلحة لكنهم وجدوا المخازن خاوية وأدركوا أنهم سيكونون بغير سلاح عندما يصل مسلحو «داعش».
ويتركز كثير من الجدل على الدور الذي لعبه اللواء الركن علي الفريجي، وهو قائد كبير في صلاح الدين، ومساعديه.
وبحسب خليل وحمود وجندي ثالث، فقد أبلغ الفريجي ومساعدوه من الضباط المجندين إنهم نالوا إجازة لمدة 15 يوما، وقال المجندون إنه بعد فشل جهود لإجلاء القوات من القاعدة بقافلة سيارات أو بالجو أعلن الفريجي أنه تم التوصل لاتفاق يسمح لهم بممر آمن إلى سامراء إلى الجنوب.
ورأى المجندون الفريجي لآخر مرة صباح يوم المذبحة، وذكر التلفزيون الرسمي أن الفريجي بقي في منطقة تكريت وكان يقود القتال في موقع آخر.
ويقول الفريجي إن الوصف، الذي يقدمه المجندون الناجون وأقارب الضحايا غير دقيق: «المجندون لم يتلقوا أي عرض بممر آمن ولم يطلب منهم أحد على الإطلاق أن يتركوا القاعدة». وقال أمام مجلس النواب إن الحكومة أرسلت قوات خاصة إلى المنطقة لحماية المحاصرين لكن المجندين خرجوا من القاعدة عنوة.
وفي 12 يونيو الماضي، دخل رجال القبائل القاعدة لإخراج المجندين وكان أغلب المجندين خائفين بحسب حمود الذي قال «القبائل طمأنتنا بأننا تحت حمايتها وأننا ذاهبون إلى سامراء».
واصطف المجندون في طابور طويل خارج القاعدة، وساروا على الطريق السريع إلى تكريت، وأمام الجامعة في تكريت صدرت الأوامر للجنود بأن يرقدوا ووجوههم إلى الأرض ووضعت القيود في أيديهم، وقال حمود: «كل من حاول أن يتحرك أو رفع رأسه أطلقت عليه النار».
وجرى تسليم الجنود لمقاتلي «داعش» الذين قادوهم لمسافة 20 كيلومترا إلى أرض قصر صدام القديم حيث وضعت غمامات على أعينهم وأعدموا.
وبقي حمود في قبضة مقاتلي التنظيم 11 يوما استطاع خلالها إقناعهم بأنه سني، لكنه رأى شقيقه ومئات آخرين يقتادون إلى خارج مكان احتجازهم ليقتلوا.
وقال «داعش» الذي نشر شرائط فيديو وصور للمقابر الجماعية إنه قتل 1700 جندي. وقالت منظمة «هيومن رايتس ووتش» إنها وثقت مقتل ما بين 560 و770 جنديا من خلال صور التقطت بالأقمار الاصطناعية ومن خلال صور وشرائط فيديو تنظيم «داعش» على الإنترنت، وقالت المنظمة إنها تعتقد أن عدد القتلى أكبر من ذلك.
وتقول المنظمة، التي تتخذ من نيويورك مقرا لها، إن 3000 جندي اقتيدوا من قاعدة سبايكر.
ووعد القادة السياسيون بإجراء تحقيق لكن أقارب الضحايا يقولون إنهم لا يثقون بأن النخبة السياسية ستقدم وصفا حقيقيا للأحداث قد يظهر المسؤولين وزعماء القبائل بأنهم غير أكفاء في أحسن الأحوال أو متواطئون في القتل الجماعي في أسوأها، ولدى الحكومة العراقية قائمة طويلة من التحقيقات في قضايا ثار حولها الجدل لكن التحقيقات ظلت طي الملفات.
وقال موفق الربيعي، النائب حاليا، ومستشار الأمن الوطني سابقا: «لا أحد يقول حقيقة ما يجري، الأسر تحتاج إلى إجابات واضحة»، وأضاف «صعب جدا أن نعبر الهوة بين الرؤيتين في هذه القصة».
بالنسبة لحمود الذي لا يزال يعاني من جروح نفسية لحقت به من المحنة تبدو أيامه ضربا من الأحلام، ويقول: «لا أزال أفكر: هل كان هذا حلما أم حقيقة؟ هل ما زلت حقا على قيد الحياة؟».