منذ وقت طويل وأنا ألاحظ أننى غير سعيد. أخذتنى دروب الحياة كثيراً وأنا غير سعيد. دراسة! عمل! سفر! أصدقاء! وأنا غير سعيد. تتراكم التجاعيد رويدا، يتسلل الشعر الأبيض. أكبر.. وتكبر البيوت والأشجار معى، وأنا غير سعيد..
ثم حدث أن سألت نفسى فى صدق: «خبرينى يا نفس: هل أنا لست سعيداً؟». قالت نفسى وهى تبتسم: «بلى، وبدون أدنى شك، أنت لست سعيداً!». سألتها: «ولماذا يا نفس؟ اشرحى لى».
وفجأة لا أدرى ما حدث. انفصلت ذاتى عنى، ووجدتنى جالسا فى مقعد صغير، كتلميذ صغير. ووقفت نفسى أمامى، كمعلمة ناضجة، فيها ملامح أمى، وأمسكت قطعة طباشير! ثم كتبت على سبورة سوداء:
«هل اختياراتك نابعة من ذاتك؟ أم أن المجتمع قد برمجك منذ الطفولة بحيث لا تخرج عن المألوف؟».
قلتُ فى صدق: «برمجنى وعذبنى. لماذا أشعر بالقلق حينما أشاهد طابورا فأنضم إليه دون وعى؟ لماذا خضعت لمجتمع حدّد لى مفهوم الفشل والنجاح؟ ولماذا يجب أن أمتلك سيارة وعيادة خاصة أكرس لها كل وقتى وإلا كنت فاشلا؟ ولكن ماذا لو كنت أمقت القيادة؟، وماذا لو كنت لا أريد العمل الخاص؟».
ابتسمت النفس فى تعاطف وعادت تكتب على السبورة: «إذن ما طريقك للخلاص؟».
قلت فى حيرة: «كنت أنتظر يا نفس أن ترشدينى!»، قالت النفس فى حكمة الأمهات: «بل يجب أن تُخلّص ذاتك بذاتك».
تأملت فى كلامها رويدا، واستغرقت فى صمت طويل. لم أخبر نفسى أننى أهدرت معظم حياتى فيما لا يهمنى، وعملت فى أعمال لا أحبها من أجل شراء أشياء لا أريدها. لمجرد أن الرأى العام أكّد لى أنها ضرورية ولا أستطيع الاستغناء عنها! حتى جاءت لحظة الحقيقة فوجدتنى غير مهتم بها البتة.
رفعتُ أصبعى كتلميذ مجتهد وقلتُ: «قررتُ بكامل أرادتى أن أرتمى فى أحضان اللون الأخضر نادما على وقت طويل ضاع بلا مبرر، واكتشفت أن طعام الأمهات أجمل من المطاعم الأمريكانى، والفول المدمس ألذ إفطار فى العالم. وحياة أبى كانت أفضل من حياتى رغم طفرة التكنولوجيا، وأغانى زمان أجمل من أغانى اليوم، وأفلام الأبيض والأسود أكثر أصالة من السينما الحالية، وحتى التليفون الجوال فقد اقتحم خصوصيتى بأكثر مما أفادنى».
قالت النفس فى حكمة: «لقد فرض عليك الكاوبوى الأمريكى المنتصر نمط حياته التى تقوم على الاستهلاك فقلدته كالقرود!».
قلت فى ثقة: «وقد حان وقت تغيير ذلك كله». قالت النفس وهى تعبث بشعرى فى حنان: «ماذا تنوى أن تفعل؟».
قلتُ فى حماس: «سوف أستغل كل دقيقة باقية فى حياتى لأعيد اكتشاف نفسى على ضوء جديد»!
قالت النفس فى تشجيع: «وماذا تتوقع أن تجد نفسك؟». قلتُ فى يقين: «أنا شجرة توت ضاربة فى أعماق الأرض، أنا الرحيق الكامن فى ثمرة التوت! أنا ابن الأرض الطيبة واللون الأخضر الوقور. أنا العصفور المغرد على الشجرة، أنا الطلمبة والساقية والعود.
أنا السماء الصافية، أنا الكروان المغرد، أنا شواشى الذرة، وعيدان القصب، وطرح النيل. أنا ماء الطلمبة المتجمع عبر قرون. أنا تفاصيل الحياة المصرية المفعمة بالحنين».