جريمة قتل لا يهمنا أن نستقصى دوافعها، لا يعنينا الآن سوى أن الجثة دُفنت فى أعماق الصحراء. لأسابيع عديدة تحللت الجثة، تخلّت عن رداء اللحم والدم. تعرت إلى حقيقتها الجرداء، جمجمة ذات ضحكة ماجنة، وعظام كانت إنسانا يحلم. وسرعان ما بدأ الحوار الخفىّ فى عمق الصحراء.
لماذا يدهشنا أن الجماد يتكلم! يتفاهم بلغة خفية لا نسمعها نحن الأحياء. الجماد مكتظ بالحياة. تدور الإلكترونات حول النواة. تتنقل عبر المدارات! تفيض بالطاقة الزائدة، تتحرر، تبوح بالأسرار. حياة هذه أم ليست حياة!؟
رحبت رمال الصحراء بالجمجمة، ابتسمت الهضاب للعظام، وتبادلوا الحديث! قالت رمالُ الصحراء للجمجمة: «أنت تعرفين أننا جماد. لم نعش قط مثلك، فمن فضلك أخبرينا ما هى الحياة؟».
قالت الجمجمة فى دهشة: «رباه! لا أصدق أننى متُ بالفعل. الحياة جميلة جدا. حينما تكون حيا فإنك تتحرك مثلا وتنتقل عبر الأمكنة!». ابتسمت الرمال وقالت: «نحن أيضا نتحرك وتحملنا الرياح».
سكتت الجمجمة قليلا، وكأنها تستوعب الكلام، ثم قالت: «إذن فالحياة أن نأكل ونشرب».
قالت جمجمة ماموث تحجرت منذ مائتى مليون عام: «هذا الكلام صحيح. فأنا كنتُ آكل وأشرب، يبدو أنك حيوان مثلى؟» قالت الجمجمة فى تأمل: «كلا. لست حيوانا، إننى إنسان».
قالت حبة رمال ساخنة: «نشعر كل صباح بحرارة الشمس، فما هى الشمس؟». قالت الجمجمة فى ارتياح لتغير مجرى الحديث: «هى مستديرة وساخنة وتسكن السماء». سألتها الحبة فى فضول: «وهل السماء جميلة؟». قالت الجمجمة بعد لحظات من الصمت: «زرقاء وصافية، ومليئة بقطع السحاب المنقوشة البيضاء. لكن بصراحة لم أكن أتطلع إليها كثيرا. كنت مشغولا بالأرض، غير مبالٍ بالسماء».
قالت سماء الصحراء فى عتاب: «ولماذا لم تهتم بى، وأنا لامعة، مكتظة بالنجوم؟». قال فى حيرة: «كنت مكتظا بالشهوة، مشغولا بالتطلع إلى الأرض، فلم أنتبه إلى السماء».
قالت السماء فى دهشة: «أحقا لم تكن تلاحظ رحلة القمر كل شهر من المحاق إلى البدر؟». تنحنحت الجمجمة قائلة: «يؤسفنى أن القمر لو غاب عن السماء بمعجزة ما كنت ألاحظ أصلا».
سألت حبة زلط مراهقة: «حدثنا عن الحب، هل هو جميل جدا؟». تنهدت الجمجمة فى حسرة: «ذكرتنى بالحب! كنت لا أكف عن مغازلة النساء». قال الماموث مندهشا: «ونحن أيضا كنا نتناسل ولم نكن نسميه حباً. أعتقد أنك لم تعرف الحب على الإطلاق». قال الجبل فى أسف: «لطالما هبطتُ من خشية الله ومحبته، فولدتُ آلاف الحجارة الصغيرة. كل زلطة هنا هى ابنة شرعية للحب. فهل البشر بحاجة أن يتعلموا الحب من الجماد!».
تدحرجت حجارة صغيرة من قمة الجبل، قالت وهى تهبط: «الحب أن تطيع ولا تعترض على مشيئة الله».
لزمت الجمجمة الصمت طويلا ثم قالت فى خجل: «يؤسفنى أننى لن أشبع فضولكم عن الحياة. فلقد اكتشفت الآن أننى عشتُ حياة تقودها الغرائز. أعتقد أننى متُ دون أن أحيا أصلا! وأظن أن معظم البشر مثلى، يدخلون الحياة من باب، ويخرجون من الباب الآخر، دون أن يعرفوا ما معنى الحياة».