فى قلب كل إنسان، رجل دين كان، أو راقصة، أو لصاً أو محتالاً، أو عامياً بسيطاً يغمس رزقه بالتعب، أو فلاحاً أجيراً يزرع الأرض، أو تاجراً يسعى فى الأسواق، أو بحاراً يجوب الموانى المنسية، فى العمق العميق من روح كل إنسان، على ظهر هذا الكوكب الأرضى، مهما كانت مهنته، مهما بلغت معاصيه، مهما نسى العهد القديم، يوجد الله.
كل إنسان منّا، كائنا من كان، مسلما كان أو مسيحيا أو بوذيا، يوجد فى أعماقه السحيقة ذلك الشوق الملح لخالقه العظيم، وهذا الحنين الذى لا يُقاوم إلى الله تعالى. فطرة مبثوثة فى نفوس الجميع تعود للعهد القديم فى عالم الذر قبل خلق الإنسان نفسه (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِى آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا).
لأنّه الله.
هو رب الناس (كل الناس)، إله الناس (كل الناس). مهما كانت هويته أو لغته أو ديانته أو اعتقاده أو خطاياه، توجد داخله الذرة العابدة المضيئة التى تجلى عليها الله.
(لا إله إلا الله) هى البديهة التى ينطق بها الكون. كل زهور الحدائق ورقصات العصافير ونداء الكروان. صفاء الأزرق وزهو الأحمر وسلام الأخضر وطهر الأبيض.
التناسق العجيب المدهش فى عالم الجماد والأحياء. رقصات الذكور وقت التزاوج. سقوط الأوراق فى الغابات الاستوائية. غرائز الحشرات، رحلة الضوء عبر المجرات. موسيقى الأفلاك. كل شىء منه يدل عليه.
لأنّه الله.
(لا إله إلا الله) هى بديهية الكون ينطقها بألف لسان. بكل اللغات. بلون بلمسة بلحظة بحدث. الكون يكتبها بكل طريقة ممكنة، والأرواح تقرأ هذه اللغة الكونية المدهشة حتى لو لم تدرك العقول هذا. ثمة علاقة مباشرة بين الكون وروح الإنسان باعتباره أثمن مخلوقات هذا الكون عند الله.
لمن كانت ترقص القبائل البدائية فى الليل الأفريقى تحت القمر؟ لمن ابتهل بوذا فى تأملاته تحت الشجرة؟ بل لمن تغنى العصافير كل صباح؟ ولمن تحمل الريح زئير وحوش الغابات الاستوائية؟ وماذا يقول خرير الماء الجارى بالزهور؟ ولمن ترقص النحلة تحت الشمس؟ ولماذا يتزين الطاووس بكافة ألوان قوس قزح؟ ولمن يرقص البجع؟ وبماذا يبوح الياسمين فى أمسيات الصيف السعيدة؟
يحن الفرع إلى الأصل، ويشير المخلوق للخالق، ويسجد العبد لله.
وحتى حينما أذهب إلى المتحف المصرى وأسير وسط التماثيل العملاقة فى رهبة، أكتشف أنى أسبح بحمد خالقى العظيم دون أن أقصد. أتأمل وجوه أجدادى فى صمت، أكاد أسمع أصداء تراتيلهم فى معابدهم العتيقة على ضفاف النيل. وأستنشق عبير البخور والمسك وخشب الصندل والزيت المقدس، وألمح فى عيون التماثيل العشق والحيرة. هل وصلوا إلى الحقيقة الكبرى أم لم يصلوا؟ من أنا حتى أحكم؟ الله وحده يحكم! لأنه الله.
أيها العبد! لا تحتكر الطريق إلى الله! وإياك أن تصنع جفوة- أو فجوة- بين العبيد وبين الله. إنك لو تركت الإنسان وشأنه، فسيكتشف دون جهد أنه يحب الله تعالى حبا شديدا حتى لو كان يرتكب الكبائر كلها ويمارس الخطايا! لأنه يحبه! لماذا يحبه؟
لأنّه الله.