لعالم السياسة الأمريكى «جوزيف ناى»، عبارة شهيرة يصف فيها توازنات القوى فى العالم، أحادى القطبية من الناحية العسكرية، لأن الولايات المتحدة لا تزال هى الأقوى والأكثر إنفاقًا عسكريًا وبمسافة كبيرة عن باقى العالم، ولكن يضيف أن العالم ثنائى القطبية من الناحية الاقتصادية نتيجة للصعود الاقتصادى للصين الذى جعلها القطب الثانى فى عالم الاقتصاد. أما بالنسبة للقوى الناعمة فيرى «ناى»، أن توزيع القوة بالنسبة لها يتسم بالانتشار أو التعدد القطبى، وفى ظل امتلاك العديد من الدول لمكونات هذه القوة. اليوم يمكن أن نضيف بُعدًا جديدًا للقطبية فى العالم، يتعلق بامتلاك القدرات العلمية والتكنولوجية.
هناك بالتأكيد التنافس التكنولوجى المستمر بين الولايات المتحدة والصين منذ أن أعلنت الصين عام 2015، عن خطة «صنع فى الصين2025»، والتى تستهدف تحقيق تفوق فى مجال التكنولوجيا المتقدمة، تنزع به الميزة النسبية التى تتمتع بها الولايات المتحدة والغرب فى هذا المجال. ولكن جائحة كورونا وتطوير لقاحات للوقاية من هذا الفيروس كشفا عن بعد جديد للقطبية فى مجال العلم والتكنولوجيا، يتسم بالتعددية، ولكن بين مجموعة صغيرة من أقطاب العالم.
فاللقاحات المتاحة حاليًا ترتبط بعدد محدود من الدول، فهناك اللقاح الذى طورته شركتا «فايزر» الأمريكية و«بيونتك» الألمانية.
كما يرتبط بالولايات المتحدة لقاح آخر هو «موديرنا» وهو اسم شركة أمريكية للتكنولوجيا الحيوية. وفى إطار المعسكر الغربى أيضًا هناك اللقاح الذى طورته جامعة «أكسفورد» بالتعاون مع شركة الأدوية البريطانية «استرازينيكا».
ينافس هذه اللقاحات الغربية التى ترتبط بأسماء الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا، اللقاح الصينى المعروف باسم «سينوفارم»، وهى شركة أدوية صينية مملوكة للدولة، وقد شاركت مصر والإمارات فى الأبحاث الإكلينيكية الخاصة به. وأخيرا هناك اللقاح الروسى المسمى «سبوتنيك فى» والذى طوره مركز «غاماليا» الروسى للبيولوجيا المجهرية.
وقد اختارت روسيا اسم «سبوتنيك» للقاحها كى تذكر الغرب بالتفوق العلمى الذى كانت تتمتع به فى ظل الحرب الباردة وفى إطار الاتحاد السوفيتى، عندما بدأت عصر السباق الفضائى بإطلاق صاورخ «سبوتنيك» عام 1957، أما حرف «v» المصاحب لاسم اللقاح فقد وصفه بعض المسؤولين الروس بأنه يعبر عن «النصر» أو الانتصار على فيروس كورونا.
بالإضافة لهذه القائمة من الدول التى طورت اللقاح، هناك أيضا الهند، وبالرغم من أنها لم تعلن بعد عن اكتشاف لقاح خاص بها، ولكن سوف يتم الاعتماد عليها بدرجة كبيرة فى إنتاج العديد من اللقاحات السابقة.
فالهند تملك قدرة هائلة على تصنيع اللقاحات تبلغ حوالى 60% من الإنتاج العالمى، ولديها مدن مثل «حيدر أباد» التى تملك البنية التحتية الطبية لتلبية ثلث الطلب العالمى على اللقاحات، وحصلت على لقب «عاصمة اللقاحات الدولية».
تطوير الدول السابقة لقاح كورونا وقيامها بإنتاجه لسد احتياجات العالم سوف يرسخ شكلا جديدا من القطبية فى النظام الدولى، قطبية تعددية، ولكن مركزها عدد محدود من الدول، وقطبية تعتمد بالأساس على أولوية الاهتمام بالعلم والابتكار، وحجم الإنفاق الحكومى عليه، فالملاحظ فى الدول التى طورت هذا اللقاح أنه تم إما فى معامل تابعة للدولة (الصين وروسيا) أو بمساندة مالية ضخمة منها للمعامل التابعة للقطاع الخاص، على سبيل المثال تلقت شركة «موديرنا» الأمريكية دعمًا حكوميًا بلغ 2.5 مليار دولار لمساندة تطوير اللقاح.
العالم إذن يدخل مرحلة جديدة، سوف تتحدد مكانة الدول فيها بشكل كبير بقدراتها العلمية وريادتها التكنولوجية، واستثماراتها فى البنية التحتية الخاصة بذلك، والشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص فى المشاريع البحثية، وتنمية المواهب البشرية، وزيادة الاهتمام بتعليم العلوم والتكنولوجيا فى المدارس والجامعات.