يشهد العالم من فترة لأخرى جدلا حول النموذج الغربى فى الحكم والتنمية، وهل هو فى حالة صعود أم انحدار. وقد يتذكر البعض الكتاب الشهير لأوزوالد شبنجلر «انحدار الغرب»، وكتاب بات بوكانان بعنوان «موت الغرب»، وغيرها من الكتابات التى تنبأت بنهاية الغرب.
الجدل حول هذا الموضوع تجدد فى الشهور الأخيرة بسبب أزمة جائحة كورونا، والتى كشفت عن ضعف استعداد الولايات المتحدة والدول الأوروبية للتعامل مع هذا الوباء مقارنة بالصين ودول آسيوية أخرى، كما ساهمت الأزمة السياسية التى تعانى منها العديد من الدول الغربية فى تصاعد هذا الجدل.
فى هذا الإطار، ومنذ حوالى أسبوعين نشرت جريدة وول ستريت جورنال الأمريكية تقرير مطولا عنوانه «هل مازال الغرب قادرا على قيادة العالم».. بدأ بفقرة جاء فيها أن الغرب يجد نفسه اليوم فى أزمة وجودية، فدوره كمنارة عالمية موضع شك، والمؤسسات التى تجمعه مثل حلف شمال الأطلنطى، أصابها «موت دماغى» وفقا لتعبير الرئيس الفرنسى ماكرون. وفى المجال السياسى فإن الشعبوية القومية على اليمين وسياسات الهوية على اليسار تهدد ما كان فى السابق إجماعًا واسعًا ومتجذرًا فى القيم المشتركة للديمقراطية وحقوق الإنسان.
كما بدأ الإيمان الذى كان شبه عالمى فى الديمقراطية النيابية يتلاشى على جانبى المحيط الأطلنطى. فوفقًا لاستطلاع رأى قام به مركز بيو الشهير فى العام الماضى، يعتقد ٤٦٪ فقط من الأمريكيين أن حكومة بلادهم تدار لصالح الجميع، وهو انخفاض من ٦٥٪ فى عام ٢٠٠٢. وفى ألمانيا، انخفضت هذه النسبة إلى ٤٨٪ من ٨٦٪، وفى إيطاليا إلى ٣٠٪ من ٨٨٪. كما أن ٢٧٪ فقط من الأمريكيين و٢٣٪ من الفرنسيين و٣٧٪ من الكنديين يوافقون على فكرة أن المسؤولين المنتخبين يهتمون بمصالحهم.
واستنادا للتقرير، فإن قوى اليسار فى الغرب تلقى باللوم فى الوصول لهذه الحالة على الجشع الرأسمالى الجامح وسيطرة الشركات الكبرى على مؤسسات الدولة، وكذلك على الانقسام الذى أحدثته رئاسة ترامب. فى حين أن قوى اليمين تؤمن بأن أزمة الديمقراطيات الغربية ناتجة عن فجوة متسعة بين الجمهور العام والنخب التكنوقراطية الليبرالية البعيدة عن الواقع.
ويضيف التقرير أن هذا الخلاف الداخلى بدأ يتداخل مع الانقسام المتزايد بين الدول الرئيسية فى الغرب، وبدأ الشعور بالقيم والأهداف المشتركة بين أوروبا والولايات المتحدة، وهو جوهر ما كان يُعرف باسم «العالم الحر»، يتلاشى. ووفقا لاستطلاع آخر أجراه مركز بيو فى سبتمبر الماضى، لا يبدى سوى ثلث الأوروبيين وجهات نظر إيجابية عن الولايات المتحدة.
هذه الأزمة التى يعيشها الغرب، يقابلها صعود صينى كبير فى العقود الثلاثة الماضية، مما دفع البعض للترويج لفكرة أن الازدهار يمكن أن يتحقق بدون القيم السياسية الغربية، وهو نموذج جديد أصبح يلهم البعض حول العالم، فقد انتشلت الصين مئات الملايين من براثن الفقر وخلقت منتجات وشركات جديدة قادرة على المنافسة عالميًا. ويقتبس التقرير مقولة لباحث بجامعة ستانفورد الأمريكية جاء فيها أن «التحدى من الصين جديد ويختلف عن التحدى من الاتحاد السوفيتى لأن الصين هى مجتمع أكثر نجاحًا اقتصاديًا بشكل واضح».
الخلاصة هى أن الغرب يعانى أزمة متعددة الأبعاد، ولكن بالرغم من ذلك نجد من يقول
إن أزمات الغرب ليست جديدة، وإن الغرب تمكن مرارًا وتكرارًا من إعادة اختراع نفسه بسبب قدرته المذهلة على التجديد والابتكار والتغيير. وهذا هو اختبار السنوات القادمة.