هناك وجهة نظر يتسع باطراد عدد مؤيديها فى مصر، وترى أن جهد الدولة يجب أن يركز على عملية البناء الداخلى، وأن تستثمر فيه الجانب الأكبر من الطاقة والموارد. وجهة النظر هذه ترى أن نشاط الدولة فى مجال السياسة الخارجية يجب أن يكون محدودا من حيث الأهداف والحركة، ودون التورط فى أى أدوار تشتت الجهد وتستنزف الموارد.
هذه المقولات لها وجاهتها بالتأكيد، وخاصة بعد ما تعرضت له البلاد من تحديات داخلية ضخمة فى العقد الأخير. ولكن هذا التفكير يحتاج لقدر من المراجعة لعدة أسباب. أولها أن مصر الآن أكثر استقرارا، ولديها خطة طموح للإصلاح الاقتصادى، وخريطة طريق فى العديد من المسارات الداخلية الأخرى. والسبب الثانى أن نظرية الانكفاء على الداخل تتجاهل حقيقة أن نشاط السياسة الخارجية كثيرا ما انعكس إيجابيا على السياسة الاقتصادية، واقتباسا لعبارة مأثورة للدكتور مصطفى الفقى فإن مصر «تبيع سياسة وتشترى اقتصاد» بمعنى مكانة مصر الدولية ودورها الاقليمى انعكس إيجابيا فى شراكاتها الاقتصادية مع الدول الأخرى، والمساعدات والاستثمارات التى تأتيها من الخارج.
الحديث عن دور مصر الإقليمى له أهمية أيضا هذه الأيام، لأن عددا من دول المنطقة، يسعى لطرح نفسه كقائد لها، ويسعى للتمدد فيها والتورط فى قضاياها، وبعضها يخلق لنفسه أدورا من عدم كى يتيح لنفسه كرسيا حول مائدة التفاوض بشأن تسوية مشاكلها، أو يستخدمها كورقة تساوم مع القوى الكبرى بشأن قضايا أخرى.
السبب الثانى لأهمية الحديث الآن عن دور مصر الإقليمى، هو أن الإدارة الجديدة للبيت الأبيض فى ظل الرئيس المنتخب جو بايدن، سوف تضم عددا من العناصر التى تضمر نوايا غير طيبة لمصر، والتى لديها هوس بهذا الموضوع، ورددت لعدة سنوات، من خلال وسائل الإعلام ومنشورات مراكز الأبحاث، أن دور مصر فى المنطقة وأهميتها كحليف استراتيجى للولايات المتحدة فى تراجع. مقولات هذه العناصر ليس الهدف منها تقديم تحليل نظرى، ولكن تستهدف التأثير على حجم الشراكة والتعاون بين مصر والولايات المتحدة الممتد منذ نهاية السبعينات، وقد تضغط لتبنى إجراءات فى هذا الشأن من خلال البيت الأبيض، أو الكونجرس وخاصة لو استطاع الديمقراطيون تأمين أغلبية فى مجلس الشيوخ بالإضافة لأغلبيتهم الحالية فى مجلس النواب.
الرد على هذه المقولات يكون فى «الملعب» كما تقول العبارة الشهيرة، ومن خلال رؤية لتفعيل وتنشيط دور مصر الاقليمى. والواقع أن مصر لن تبدأ من الصفر، فقد أدركت مبكرا حجم التغيرات فى الخريطة الإقليمية، وسعى البعض لإعادة تشكيلها، وتحركت بقوة فى نقاط التماس لأمنها القومى، ومازالت عبارة الرئيس السيسى بأن تجاوز الخط الأحمر ممثلا فى خط «سرت- الجفرة» بليبيا، سيؤدى إلى تصدى مصر لهذا التجاوز دفاعا عن أمنها القومى وسلامة شعبها، علامة فارقة فى تطورات الأزمة الليبية ودور مصر بشأنها.
كما شهدنا أيضا النقلة النوعية فى المناورات العسكرية المشتركة مع السودان، وتنامى التعاون الثلاثى مع العراق والأردن، والدور المصرى بلبنان، والتحرك بشرق المتوسط وغيرها.. ولكن الملعب كبير، وهناك مساحة لأدوار بشأن سوريا واليمن والقضية الفلسطينية وغيرها.
باختصار هناك طلب إقليمى ودولى لدور مصر بالمنطقة، والاستجابة الرشيدة لهذا الطلب الخارجى، سوف تنعكس إيجابيا على الداخل أيضًا.