x

طارق الشناوي هل توافق الرقابة المصرية على (الهاربة) التونسى؟ طارق الشناوي الأربعاء 23-12-2020 02:53


الحالة المصرية لاتزال حاضرة معى فى (قرطاج) وأنا أشاهد الفيلم التونسى الرائع (الهروب)، وتنطق بالعامية التونسية (الهاربة)، الفيلم كتبه وأخرجه غازى الزغبانى، لأن المهرجان وضع على قائمة أهدافه التى صاغها المخرج رضا الباهى أن يُقدم (استعادة) للماضى، وأيضا يعرف الجمهور آخر ما قدمته السينما التونسية.

تساءلت وأنا أشاهد الفيلم: هل من الممكن أن توافق الرقابة المصرية على الخط العام، رغم التوافق السياسى الذى يعبر عن الدولة، فهو يكشف ادعاء وزيف بطل الفيلم الإرهابى المتطرف، عندما نراه أمامنا كإنسان فى علاقة متشابكة بحكم الضرورة المكانية والزمانية ـ لا تتجاوز مساحة الحجرة التى تجرى فيها الأحداث مترين وفى زمن لا يكمل 24 ساعة- نشاهد ونتابع ونتعمق فى فكر هؤلاء الذين يرفعون شعار الدين فى مواجهة المجتمع؟، فما بالكم عندما تصبح العلاقة مع فتاة ليل هى التى تضمن بقاءه على قيد الحياة، فهى تحميه من كل العيون التى من الممكن أن تصل إليه!.

الدولة فى مصر توافق قطعًا على الفكرة والخط العام.. ولكن ماذا عن التناول؟!، لا يمكن سوى أن نشاهد الغواية المتجسدة فى سلاح تلك السيدة، ونرى أيضا علاقتها بالزبائن، ونتابع حالة الشبق التى تعيشها، قد تخفف الرقابة الكثير من اللقطات، إلا أن من سيرفض فى النهاية التصريح بالفيلم هو المجتمع.

لايزال داخل نسيج البيت المصرى صوت لا يؤمن بأن التصنيف العمرى فى العالم كله وضع حدًا فاصلًا ونهائيًا بين العمل الفنى والمصادرة، فلا يوجد فى القاموس الآن تعبير المنع لأسباب أخلاقية، بمعناها المباشر وأحكامها القاطعة، لأن المشاهد الناضج صارت العصمة بيده، يعلم الفارق بين العمل الفنى والقضية التى يتناولها، و(البون) شاسع بين مَن يقدم فيلمًا خليعًا ومَن يقدم عملًا فنيًا تتخلله لقطات حتمية بها جنس أو عرى، المعيار الفنى (الجمالى) هو الذى يحدد بوصلة قراءة الشريط السينمائى، بينما الحكم على العمل الفنى بمقياس زئبقى اسمه (النظافة ) بات مسيطرًا، ليس فقط على المجتمع.. ولكن عددًا من الزملاء عندما نتابع كيف قرأوا العمل الفنى سنلمح أنهم يحددون العلاقة سلبًا وإيجابًا بمقدار كم هو (ناصع النظافة)، التى تعنى خلو العمل الفنى من القبلات وأخواتها أو تعاطى المخدرات بتنويعاتها المختلفة.. وهكذا، نظلم الفن بهذا المعيار المتغير بطبعه فى الزمان والمكان، كما أنه ليس له علاقة بالعمل الفنى، إنه يشبه من يقيس الزلزال بدرجة حرارة (فهرنهايت) وليس معدل الاهتزاز (ريختر).

كثيرًا ما تتلقى الرقابة - وهذا قطعًا ليس دفاعًا عنها - ولكن إقرار بالواقع.. كثيرًا ما تكتشف أن صوت المجتمع أعلى من صوت الرقيب، وأنه يتهم الدولة بالسماح بما لا يجوز تداوله، هم لا يعرفون شيئًا اسمه التصنيف العمرى، ولا يدركون أن الكرة قبل أكثر من نصف قرن صارت فى ملعب الشعوب وليس الحكومات، وعليهم أن يختاروا بحرية مطلقة ما يجوز لهم مشاهدته وما لا يجوز.

ما يسيطر على الرقابة ليس الدولة وتعدد الأجهزة التى ترى أن من حقها الإطلال على العمل الفنى قبل السماح بتداوله جماهيريا بمعايير تدخل فى إطار الأمن القومى، ولكن هناك أسبابًا أخرى صار على الرقابة أن تراعيها وإلا وجدت نفسها لوحة تنشين لكل من لديه تحفظ أخلاقى على مشهد، وبدلًا من اتهام المخرج وصُناع العمل، سيتوجه بضرباته المتلاحقة إلى الرقابة التى لم تراعِ قيم مجتمعنا، وفتحت الباب على مصراعيه لمن يخدش الحياء ويحطم القيم.

الشريط السينمائى تجرى كل أحداثه فى زمن لا يتجاوز 24 ساعة داخل غرفة فتاة ليل، حيث يقدم المخرج فيلمه الجرىء الذى يجمع بين المتناقضين الثلج والنار، والحلال والحرام، الملاك والشيطان، السماء والأرض، (المومس) مقتنعة بموقفها وحقها فى الحياة، وهى تمارس مهنتها غير الشريفة بكل أمانة وشرف، فلا تحصل على أجر من المتطرف الهارب الذى يحتمى بها أكثر مما تناله من الآخرين، وهى تحرص أيضا على أن تمنحه مقابل ما دفعه، تفصل بين حماية حياة إنسان وبين مهنة تبدو لا قلب لها ولا ترف سوى الحصول على الأموال.

المتطرف على الجانب الآخر يرى أنه هو الحق، فهو الذى يعرف بالضبط الحدود، ويكفّر المجتمع غير المنضبط، آذان الفجر يتخلل المشهد، وفى كل مرة تحدث مراجعة وكأنه يذكر الجميع بأن عين الله تراهم.

هى تنام على السرير بينما هو أسفل السرير، الخط الفاصل بينهما فى نهاية الأمر يتلاشى، أنقذته من الموت أكثر من مرة، وتحضر له شفرة الحلاقة ليتخلص من صورته باللحية الطويلة التى صارت مع الأجهزة التى تطارده، وتمنحه الفرصة فى الحياة، فهى لا تريد موته ولكنها تريده أن يعود إنسانًا.

الضوء يأتى من الخارج حيث يطل عليه من داخل الغرفة حتى يتأكد من زوال الخطر، هو معادل موضوعى للعلاقة مع الحياة بعيدا عن تلك الغرفة الضيقة. الصراع النفسى والفكرى بينهما يلعب ضيق المكان والزمان دوره فى اشتعاله، حرص السيناريو بين الحين والآخر على خلق مساحات للتنفس أمام الجمهور لكسر حالة الملل، وهكذا يأتى زبون فى هذا التوقيت الحرج، وبعد خلاف عابر بينهما يغادر الحجرة، كما أن جارتها التى تمارس نفس المهنة تأتى لتطرق باب غرفتها لتحكى مشاكلها مع الزبائن، الفيلم لا يملى عليك إرادته، المخرج يمنحك مساحة حرية بعد أن يخرج الإرهابى من الباب، وأنت تسأل: هل يعود.. ليس من أجل ممارسة الجنس ولكن لأنه فى تلك الساعات اكتشف معنى الحياة وأنه لا يمكن لبشر أن يدين بشرًا؟!.

بينما السؤال الذى يراودنى: هل لو تقدم أحد مخرجينا بمشروع مماثل ستقبله الرقابة.. وإذا وافق الرقيب، فهل سيسمح المجتمع؟.

[email protected]

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية