لآخر مرة! الطرق الريفية الضيقة! الترعة تلوح على مدار الرحلة! وجوه الفلاحين الناضحة بالبؤس! الميكروباصات القديمة ذات الإطارات المهترئة! ثم تلوح ملامح القرية التى اعتادتها دكتورة ابتهال لأكثر من ثلاثين عاما! الأزقة المتربة! أفواج البط والدجاج تمشى فى ثقة! تتجنب إطارات السيارات فى مهارة فائقة! الفلاحات اللوائى يحملن أبنائهن على أكتافهن فى طريقهن إلى الوحدة الصحية! حيث يوجد الوجهان المألوفان دكتورة ابتهال ودكتور علاء!
وأخيرا لاح لها مبنى الوحدة الصحية! الطلاء العتيق والأسقف العالية! رائحة الفنيك من البلاط المتآكل! غرفة الصيدلية الضيقة لا يوجد فيها إلا بعض الحبوب البيضاء والحمراء عديمة النفع! ثم مكتبها الإيديال المعدنى، ذى الأدراج المفتوحة بعد أن تعطل قفله منذ عشرين عاما! وذلك المفرش الرخيص ترتسم عليه زهور عديمة الذوق، لكنها بلت على كل حال ولم تعد تبدو ألوانها! ثم الكرسى الذى يتحملها بالكاد!
المرة الأخيرة! المرة الأخيرة!
■ ■ ■
دكتور علاء كان هناك هو الآخر! بابتسامة محايدة تتظاهر بالثبات أصر أن يكشف على المرضى للمرة الأخيرة! ما زالت تذكر حينما استلما العمل معا فى قرار واحد منذ عدد لم تعد تحصيه من السنين! كانا زميلان فى الكلية نفسها، لكنهما لم يتبادلا الحديث قط! راحت ترمقه فى فضول! لشد ما تغير! أرطال الدهن التى تراكمت فى وجهه، ولكن نظرته القديمة المتظاهرة بالثقة ما زالت كما هى! ثلاثون كيلو جراما من الدهن على الأقل تراكمت أيضا فى بطنه وردفيه! لكنها فى هذه اللحظة شاهدت الشاب الحالم، الذى تخرج لتوه، ووزعته المديرية- مثلها- على هذه الوحدة الريفية البائسة!
هى الأخرى تغيرت! أين منها الفتاة النحيلة الهلوعة التى كانتها! أين ملامحها المرهفة وملاحة شبابها من هذه السيدة الواجمة ذات التجاعيد والنظارة السميكة والثياب غير المتناسقة! تغيرت كثيرا! كل شىء تغير!
■ ■ ■
لم تتزوج! هو أيضا لم يتزوج! بالنسبة إليها لم يكن بوسعها أن تتقدم إلى الرجال، ولكنها نشدت الأطفال بغريزة أمومتها! لكن هو رجل! ويستطيع أن يجد امرأة تناسبه! فلماذا لم يفعل؟
فى فترة ما قالت الحكيمات إن ابتهال لعلاء وعلاء لابتهال! لكنه لم يفطن إلى شىء حتى مع تلميحات الحكيمات الفاضحة! كان دائما غريب الأطوار ولا تعرف أعماقه! لم تكن تفهم لماذا لم يتحرك! لماذا لا يأخذها ويمضيان بعيدا عن هذه القرية البائسة؟ لماذا لم يفتح عيادة ويبحث كسائر الأطباء عن رزقه؟! لماذا لا يحملها على حصان أبيض ويفسح المجال أمام أنوثتها الوافرة المختبئة خلف تحفظها؟! لكنه لم يفعل! أضاعها وأضاع نفسه.
■ ■ ■
حان وقت المغادرة! لن تعود إلى هذا المكان أبدا! حملت سنواتها الستين ومضت بخطوات ثقيلة! هو أيضا كان يغادر الوحدة الصحية! ابتسم كلاهما للآخر فى اللحظة نفسها، ثم ابتعدا إلى الأبد.