أعلم جيدًا القواعد والظروف التى يكتب فيها الدبلوماسيون مذكراتهم، بالذات فيما يتعلق بالأمن القومى المصرى، خصوصًا فى القضايا الحيوية، أو التى يتداخل فيها عمل أجهزة أمنية معينة؛ ولهذا- وطلبًا للسلامة- يبتعد معظم الدبلوماسيين عن كتابة مذكراتهم، ولكننى يهمنى الجانب الإنسانى فى حياة الدبلوماسى.. أو استمرار بعضهم فى أعمال مدنية بعيدة عن الدبلوماسية.. ولكننى أستطيع أن أفهم- من هذه المذكرات- ما يقال بين السطور.. وربما تكون هذه القواعد أو الشروط، عند الكتابة، وراء ابتعاد معظمهم بمجرد ترك العمل الدبلوماسى إلا بعضهم.. ومن هؤلاء يأتى السفير عبدالرؤوف الريدى، الدمياطى «العزباوى».. يعنى من عزبة البرج.. الذى حينما لم يجد لوحة تعبر عن جو مدينته عزبة البرج ليزين بها مكتبه فى سفارة مصر فى واشنطن وجد لوحة تعبر عن جو البحر فى إحدى جزر اليونان، فهو «بحرى ابن بحر»، ويتحدث مثلى عن عشقه للسردين «بالذات عندما ينهل من طمى النيل ويصبح «مبرومة» كثيرة الدهن وأوميجا 3 فى آخر سبتمبر عندما كان موسم صيد السردين هو موسم الزواج والرواج وبناء البيوت وكسوة العيال.. وحديث السفير عن ذلك كثيرًا يحمل معنى الحنين!!.
ورحلة عمر السفير الريدى روى فيها السفير مشواره فى ٥٦٨ صفحة، حياته.. والدروس المستفادة منها.. منذ جذوره الأولى عام ١٩٣٢ وبالذات مصر بين عهدين: الملكى والثورى، وانفجار المظاهرات بين الشباب ضد الاحتلال الإنجليزى ومعارك قناة السويس قبل وبعد تأميم القناة والعدوان الثلاثى وكيف عانت مصر بين عهدين- بعد كنيدى- وبالذات أيام جونسون وضرب مصر وتدمير جيشها عام ١٩٦٧، والألم النفسى الذى ضرب كل المصريين، والأهم تداعيات ما عانت منه مصر بسبب هذه الهزيمة.. وهنا ربط السفير بين ثلاثية المقاومة، وحرب الاستنزاف، والعمل الدبلوماسى وبين مرحلة عودة الروح عام ١٩٧٣.
ويقف الريدى عند الزلزال الذى أحدثه الرئيس السادات بزيارته القدس، وسلط السفير الضوء على غزو موسكو لأفغانستان، وكيف يراه بداية للبركان الذى عانت منه المنطقة حتى الآن، ويقصد الإرهاب، وهنا لن تنسى مصر معركة إلغاء الديون العسكرية على مصر لأمريكا، وكيف كان ذلك بداية للإصلاح الاقتصادى فى مصر، أو كيف كانت مصر تعانى من عدم قدرتها على دفع أحد الأقساط.. ولن تنسى مصر هنا دور السفير الريدى لأن مشكلة هذه الديون العسكرية كانت تمثل أكبر الأعباء الاقتصادية.. ويستحق السفير الريدى أكبر وسام مصرى على دوره هنا.. حتى وإن كان ذلك ثمنًا لدور مصر فى قضية الكويت وما تبعها.. وكيف أنه كان على القاهرة أن تدفع عام ١٩٨٣ وحده حوالى ١٣٠٠ مليون دولار، بينما كل ما كان فى الخزينة المصرية بضعة ملايين!!.
■ ■ وأتساءل هنا: هل أدى السفير دوره باقتدار لتدخل مصر مع أمريكا فى عصر من الانفتاح على واشنطن؟.. ولكننى أحترم كثيرًا- أيضًا- ما يقوم به السفير من دور ثقافى يؤكد أيضًا أن «الدهن فى العتاقى»، عندما يظل يعمل حتى بعد أن قارب عمره من التسعين!!، شكرًا ابن بلدى وأحد أبرز نجوم الدبلوماسية المصرية.