x

رواية «آخر ضوء» لـ عمار علي حسن (الحلقة الحادية عشرة)

الإثنين 09-11-2020 00:34 | كتب: عمار علي حسن |
صورة أرشيفية للدكتور عمار علي حسن، الباحث السياسي.
 - صورة أرشيفية صورة أرشيفية للدكتور عمار علي حسن، الباحث السياسي. - صورة أرشيفية تصوير : other

يواصل الكاتب عمار عى حسن سرد أحداث الحلقة الحادية عشرة من روايته «آخر ضوء»

قلت له يومًا:

ـ إن كنت قد تعبت فقدم استقالتك، ولتفتح ورشة في منطقة القلعة أو حولها، فأنت ماهر في صنعتك، وأنا سأساعدك وسننجح.

يومها ابتسم وربَّتَ على كتفى وقال:

ـ كل ما يدخل لى يذهب على بطونكم ومدارسكم، وامتلاك ورشة يحتاج إلى رأس مال، كما أننى في سن لا تتحمل المغامرة، على الأقل إن مت أو أصابنى عجز الآن، سيصرف الجيش لى معاشًا.

كان ينثر حكاياته، وأنا أجمعها من فمه، وأرتبها في عقلى، فتزيد المسافات بينى وبين رغبتى في الالتحاق بالدراسة العسكرية، لأصير ضابطًا بالجيش.

لم يعد هذا المسار خيارى الأول، وارتضيت بالنضال السياسى بديلًا عن الانقلاب العسكرى، فالأول إن فشلت فيه، وسجنت وعذبت، فأنا بطل، أما الثانى إن فشلت فيه فأنا خائن وسأعدم رميًا بالرصاص، ويبصق علىَّ زملائى، وقد يفتضح أمرى قبل أن أشرع في أول خطوة، فيقتلونى دون أن يعلنوا ما كنت أنويه، وما شرعت في فعله، لأن هذا يكون دائمًا غير مستساغ لهم، ووقتها سأذهب في العتمة والصمت، لا يرانى أحد، ولا يسمعنى أحد، ولا حتى يسمع عنى أحد.

ذهبت إلى الاختبارات الرياضية بنفس نصف راضية، واجتزتها بنجاح، إلا أننى تلكأت في الذهاب إلى كشف الهيئة، لأن كلية الاقتصاد كانت قد أسرتنى، منذ أن وقفت عند مدخلها مع زملاء سبقونى إليها بعام أو عامين، ودار بيننا حوار في السياسة، أبليت فيه بلاء حسنًا، إلى درجة أن واحدًا منهم، وكان يستعد لدخول السنة الرابعة، قال لى:

ـ أنت جاهز قبل أن تدخل الكلية.

صرفت النظر عن الكلية العسكرية، دون أن أخبر أبى، إلى أن وجدته يومًا يضرب باب شقتنا برجله من فرط الغضب، وكنت أجلس في الصالة الضيقة أقرأ كتابًا اشتريته من سور الأزبكية، وأنا مضطجع، فوقفت منزعجًا، ألملم الشرر المتطاير من عينيه وهو يقول:

ـ أتخدع أباك يا «عبده»؟

وقبل أن أنطق وجدته يستعدى علىَّ، ولأول مرة، أمى التي لم تكن في حاجة إلى استعدائها:

ـ تعالى شوفى ابنك كيف كسر أباه.

ضحكت ساخرة منه وقالت:

ـ هذا آخر دلعك فيه.

ابتسمت أنا متعجبًا من قولها، فأنا لم أدلل في أي يوم، وعشت شيخوختى في طفولتى، ويا ليتها كانت هانئة مع هذه المرأة، التي تحط في صدرها صخرة من جبل المقطم.

أعطاها ظهره، واتجه نحوى وقال لى ليقلل من أثر شماتتها:

ـ عمومًا ملحوقة، يطلع عليك الصباح يجدك في الفنية العسكرية لإنهاء كشف الهيئة.. التوصية لا تزال باقية، والبقية في يدك.

دخلت على لجنة مكونة من خمسة ضباط كبار، ووقفت أمامهم يتأملوننى من أخمص قدمىَّ حتى ناصيتى.

سألونى عما دفعنى لاتخاذ هذه الخطوة. صمتُّ برهة وأنا أغالب ابتسامة سرت في عروقى، لأننى تذكرت السبب الحقيقى الذي كان يجعلنى أرغب في الالتحاق بالحياة العسكرية. بلعت لسانى الذي كان يريد أن يقول لهم بكل صراحة:

ـ «أريد أن أقلب نظام الحكم»..

لكننى قلت كلامًا عابرًا، بدوت خلاله غير معنى بما أقوله، ولا ما يقولونه لى. كان يخرج من طرف لسانى، وحين شعرت بأنهم لا يلقون لى بالًا، وبان على وجوههم رفضى، رميت في وجههم ما أتباهى عليهم به:

ـ مكتب التنسيق أرسل لى بطاقة القبول في «كلية الاقتصاد والعلوم السياسية».

بدا عليهم الغيظ، وأردت أن أمعن في غيظهم فواصلت:

ـ في هذه الكلية سأنال تعليمًا جيدًا أميل إليه.

وهنا أشار الذي يجلس في المنتصف، وهو برتبة لواء، إلى الباب أن أخرج، فخرجت. وحين عدت إلى البيت لم أصارح أبى بما جرى خوفًا عليه، بل قلت له محاولًا أن أدخل السرور على قلبه:

ـ واضح إن توصيتك قوية يا حضرة الصول.

تهللت أساريره، ونظر من طرف عينيه إلى أمى، التي تعمدت أن تبدو منشغلة بأمر آخر. وساعتها شعرت بالخزى مما فعلت، فبعد أيام قليلة ستجد هي فرصة جيدة للشماتة فيه وفىَّ، والسخرية منا.

لهذا كان علىَّ أن أهيئه لما هو آت. تنحنحت وقلت له كاذبًا:

ـ أحد أعضاء اللجنة حمَّلنى تحياته إليك، لكنه حرص على أن يختلى بى، ويهمس في أذنى بأن التوصيات كثيرة، والعدد المتقدم أضعاف أضعاف من سيتم قبولهم.

انكمش في مكانه، وقال:

ـ هذا طبيعى، المهم أن تكون أنت فعلت ما عليك.

قطعًا لم أكن قد فعلت كل ما علىَّ، فحتى اختبار اللياقة أديته بصعوبة، وكدت أغرق في حمام السباحة. وقلت له لأمنحه بعض ما يتغلب به على الإحباط الذي كسا ملامحه:

ـ لولا أنهم يعرفون من هو الصول «حسن» ما كلف أحدهم نفسه أن يقوم من مكانه، ويتحدث معى هكذا.

عاد إليه نصف الارتياح، وعندها أردت أن أخرج به من هذا الحديث، فتوجهت إلى أمى قائلًا:

ـ بطنى يصرخ من الجوع.

لوت بوزها، وقامت إلى المطبخ متثاقلة، وعندها وضعت يدى على كتف أبى، ودست عليها بلطف، وقلت له في عينيه المنكسرتين:

ـ أنا فخور بأنك أبى.

لكن انكساره لم يذهب عنه، فهو بخبرته عرف أن ما قلته عما فعله أحد أعضاء اللجان معى يعنى أنهم لم يقبلونى. ورأيته يغوص في مقعده المتداعى، الذي يعطى أمى فرصًا دائمة كى تسخر منه:

ـ سروجى وعفش بيتك يعرّ.

وكان كلامها دومًا يكسره، فيطأطئ رأسه، ويلوذ بالصمت. انكساره أمامى هنا في السجن كان زائدًا عن الحد، وبان أكثر على ملامحه التي جعَّدتها السنون.

كان طيلة الوقت يمرر يده على ظهرى وبطنى وكتفىَّ وساقىَّ، باحثًا عن آثار التعذيب، وكنت أغالب نفسى، متحملًا الوجع حتى لا أضنيه، لكنه كان يشعر بمعاناتى، فوجدته يطلب منى أن أخلع ملابسى أمامه، إلا أننى اغتصبت ابتسامة من عمق آلامى، وقلت له:

ـ لا شىء، ابنك صاغ سليم، وكل هذا من آثار النوم على الأرض.

وحين وجدته يصر على ما يريد، قلت له:

ـ إن فعلت هذا ستلفت انتباههم، وسينهون الزيارة، وسيتضرر بسببنا كل السجناء وأهلوهم.

هز رأسه وقال:

ـ كما تريد.

وسألته عن إخوتى، فقال لى إنهم طلبوا المجىء لكنه منعهم، وأفهمهم أنه ينوب عنهم جميعًا. وكنت أعرف أنه لا يقول الحقيقة حتى لا يزيد من أوجاعى، فليس بينهم من يشعر بآلامى سوى «وفاء»، التي تدخلت لتخفف عنى:

ـ لا تشغل بالك بنا، نحن لا ينقصنا سوى رؤيتك دومًا.

وسألته عما تقوله أمى، وكنت أحسب أن قلبها قد رقَّ حين وصل إلى مسامعها أمر تعذيبى، وأنه نبض من أجلى بشفقة أو ألم أو خوف أو حنان علىَّ، ولو لمرة واحدة، لكنه خيَّب رجائى حين قال:

ـ أمك كما هي، ليس على لسانها سوى أنك ضيعت نفسك بغرورك، وشعورك بأنك وحفنة من أمثالك تعتقدون أنكم ستغيرون الدنيا.. وأحيانًا أشعر أنها فرحانة لأن نبوءتها عنك قد تحققت.

انقبضت، رغم أننى لم أكن أنتظر منها شيئًا، لكننى كأى ابن يريد دومًا أن يشعر بحنان أمه، حتى وهو في مثل سنى.

لم ألبث أن تغلبت على انقباضى، ورميت كل شىء وراء ظهرى، حين لويت شفتى امتعاضًا، ثم هززت رأسى استهزاء بكل ما يدور في رأس امرأة أميَّة، تريد طيلة الوقت ألا ترفع وصايتها الكريهة عن كل من يحيطون بها، وهى واهمة أنها حكيمة زمانها.

ورمت زوجتى بكلام في مجرى الحديث، محاولة أن تخفف عنى، ولم تكن تدرى أنها منحتنى ما أتقوى به على السجن والعذاب.

قالت وهى تبتسم:

ـ لا ينقطع سؤال زملائك عنك.. الهاتف لا يكف عن الرنين.

رائع ما قالته لكن الأروع هو الآتى:

ـ زارتنا لجنة تفتيش الأسبوع الماضى، وكانت من بينها سيدة تحدثت معى طويلًا وعرفت أنها تخرجت في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية دفعة 1979، فقلت لها إن زوجى خريج الكلية نفسها والدفعة نفسها، فسألتنى من هو؟ فقلت لها، فاتسعت عيناها، واحمرَّ وجهها، وأرسلت لك تحياتها، وأفهمتنى أنها تعرف بسجنك، وأبدت تعاطفها معك.

اهتز قلبى خفيفًا، وسكنتنى كل الظنون، فسألتها:

ـ ما اسمها؟

قالت في هدوء:

ـ اسمها «أمينة عبدالعظيم»...

رمح قلبى، وطار فوق كل أسوار السجن، فاتسعت الزنزانة، وسكنت الآلام.

■ ■ ■

كاريكاتير زينة

حين خلوت إلى نفسى في زنزانتى أزحت البلاطة العريضة عن حفرة الذكريات الأليمة. كانت هناك أوراق أخرى لم أكن قد قرأتها، ووجدت فيها ما يمنحنى كثيرًا من الأنس، ولكن ما إن فتحت أول ورقة حتى شردت فيما سمعته من زوجتى.

كدت أهمُّ أن أسألها عن عنوان المصلحة التي تعمل فيها «أمينة» بالضبط، وما إن كانت قد عرفت شيئًا عن أحوالها، لكن لسانى أصبح أثقل من جبل المقطم. خرست، وأعدت نفسى مرة أخرى لأسئلة لا أجد لها إجابات.

يا ألله، سألت «أمينة» عنى.

من المؤكد أنها قد قرأت أنباء تعذيبى في الصحف، وربما ذرفت على وسادتها دموعًا من أجلى، وتخيلتنى وأنا صامد في وجه كرباج أهوج، أو سيخ نار حامية، أو ركلات قاسية من أحذية غليظة.

هان كل هذا علىَّ إن كان قد منحنى عطف «أمينة» ولو للحظة واحدة. ورغم أننى رجل يمقت أن يرى شفقة عليه في عينى أحد، لكن «أمينة» ليست أحدًا، فقد قبلت، بل ارتحت، لأنها ارتجفت ولو برهة من أجلى.

وشعرت، لأول مرة، بأن الزنزانة قد اتسعت، وأن الرائحة العفنة قد راحت، والجدران قد زالت، فبانت مروج خضراء وزهور وورود حتى مرمى البصر، لم تختف مع حلول الليل، بظلامه الدامس.

وجاءنى صوت الحرس الواقفين في مزاغل فوق السور العالى:

«واحد تمام..

اتنين تمام..

ثلاثة تمام..

...............

عشرة تمام..

ثم أخذ الصوت يبتعد مع ابتعاد الأرقام». بعدها بدأ صوت طليق كالريح يقول:

ـ سجن تمام..

وجاء الرد هذه المرة جماعيًّا من حراس السور:

ـ «أيوه تمام».

عاد يقول:

ـ «بس إوعى تنام».

وصرخوا بصوت واحد:

ـ «وده برضو كلام».........

جلست وشردت طويلًا وعلى شفتىَّ ابتسامة لا تنقطع، حتى عاد النور إلى الدنيا، ولم أشعر بنداء الحراس علينا لنخرج إلى الشمس، إلى أن خلعنى طرق الباب بقوة من مكانى فقمت لأجد «أبوشوشة» والحارس.

وفى الساحة الضيقة التي جلسنا فيها جاءنى صوت الصول «مسعود» بتحية الرفاق، وعرفت للمرة الأولى أن بعضهم قد خرج من السجن، ومنهم الدكتور «نبيل سعيد». وسألته عن سبب عدم الإفراج عنى وبقية الرفاق، فقال:

ـ هناك من تدخل وأخرجهم من هنا.. الأشخاص الذين حددتهم الجهات العليا هم الذين خرجوا.

انقبضت لحديثه، رغم أننى حاولت طرد أي شعور بالاستياء من أجل فرحة كان لا بد منها بأن بعض الرفاق قد صاروا أحرارًا، خصوصًا الدكتور «نبيل» الذي ناله أكبر قدر من العذاب، هو و«وحيد خليل».

لكن هذا لم يمنعنى من أن أستعيد كل ما كابدته من تفاوت بين الرفاق داخل الخلايا والتنظيمات والأحزاب الشيوعية، فهناك دومًا من يتم تمييزهم وسط حديث لا ينقطع عن المساواة، ونصرة الفقراء. وهجمت علىَّ ذكريات سوداء، حاولت كثيرًا أن أتناساها كى أواصل طريقى.

أفقت من شرودى على قول «الشيخ عبدالباسط»:

ـ ألغوا البنجر من قائمة الطعام بعد اكتشاف سلطات السجن أنه يستعمل في الكتابة على الجدران.

كان هذا جديدًا علىَّ، فرفعت وجهى مستفهمًا، فواصل:

ـ خطه الأحمر عريض وظاهر، ولا تمكن إزالته إلا بطلاء الحائط عدة مرات.

أنا لم أكن في حاجة إلى الكتابة فوق الجدران الكالحة، إنما على ورق يكون بوسعى أن آخذه معى وأنا راحل من هنا.

قطعت بعض حواف الصحف التي تم تهريبها إلينا، فصارت شرائط فارغة، وصنعت من المسافات الفارغة في أعلى الصفحات وأسفلها، وعن يمينها ويسارها، بطاقات صغيرة بعضها كان قادرًا على حمل سطرين اثنين، لكن «أبوشوشة» أهدانى دفترًا كاملًا من «ورق البفرة»، الذي يلف فيه سجائر الحشيش، وقال:

ـ اكتب فوقه بالراحة، وبخط رفيع، وعلى وجه واحد.

وكنت موزعًا على عدة دروب، لم أحسم بعد في أيها أمضى.

هل أكتب ما جرى لى في هذه الزنزانة العفنة؟..

أم أكتب بعض أفكار لكتب في الاقتصاد أنوى تأليفها حين أخرج من هنا؟

أم أكتب مقالات سياسية أحاول تهريبها، كى تنشر في صحيفة معارضة؟

أم أدون ما عانيته من رؤسائى في العمل الذين لا يملكون أي مؤهلات تجعل منهم رؤساءً لى سوى أنهم ولدوا قبلى؟

أم أكتب خواطرى وهواجسى ولواعجى؟

أم أكتب عنك أنت يا «أمينة»؟

الغريب أننى رميت كل هذا وراء ظهرى، على أهميته، وسلكت دربًا آخر، سرت فيه إلى الخلف حتى وقفت في المحطة الأساسية التي ولدت فيها لحظة اختيارى للسبيل الذي انتهى بى إلى هنا، في تلك الغرفة المتصلة بالجحيم.

نزعت أول ورقتين من «دفتر البفرة» ووضعتهما على أنفى كى أتحمل كل هذا العفن، وكان الليل قد اقترب فانتظرت حتى يأتينى الصباح لأدوِّن ما عزمت على تدوينه. وأنا أشعر بامتنان نحو «عاصم شدَّاد» وكل الذين ملأوا هذه الحفرة، النائمة تحتى، بالأوراق.

حين جاء الصباح أمسكت القلم، وفتحت الدفتر برفق، وكتبت في العنوان:

«لحظة الاختيار»..

وتحته راحت الكلمات تتدفق، تريد أن تخرج سريعًا إلى الورق، لكن ساحته الضيقة، ورقته المتناهية، قيدتانى. تزاحمت الكلمات في رأسى، لكن كنت مجبرًا على أن أخرجها واحدة واحدة.

وكان علىَّ أن أعود إلى سنوات خلت، ووجدتها فرصة جديدة للشرود بعيدًا عن هذا الجحيم، لكن دخلت في جحيم آخر، حين سيطر علىَّ هذا الموقف الذي يباغتنى ويوترنى دومًا، وهو الذي أودى بى إلى درب ساقنى وسقته حتى التقينا هنا في هذا السجن.

كنت قد أنهيت امتحان السنة الجامعية الأولى منذ أيام قلائل، حين تركت البيت مهمومًا من فظاظة أمى، حاولت أن أتحملها لكن انفجر داخلى شعور جرفنى خارج الحى كله.

أيام الطفولة كنت ألوذ برحاب سيدنا الحسين، فأجلس في الباحة التي تواجه المسجد الذي يقصده الناس بلا انقطاع، أو أقعد ساعات غارقًا في التأمل عند دار المحفوظات أو أجر قدمىَّ في تلكؤ نحو ساحة قلعة صلاح الدين الأيوبى، أو محطة القطارات برمسيس. وكثيرًا ما كنت أذهب إلى أبى في أحد معسكرات الجيش بالعباسية، ولما كبرت ووصلت إلى المرحلة الثانوية كنت أبيت عند صديقى «عبدالرحمن سليمان»، الذي كان طالبًا بكلية الهندسة، وكان في مثل سنى وبمدرستى، بل في فصلى الدراسى، وإن لم ينشغل بالسياسة مثلى.

هذه المرة لم يكن بيته مفتوحًا لى ليأوينى كالعادة، فقد سافر مع أسرته إلى مصيف «رأس البر»، لهذا لم أجد في هذه المدينة الضخمة من ألجأ إليه.

ووجدت نفسى أمشى بلا هدى، حتى وصلت إلى ميدان «رمسيس»، ولاحت أمام عينىَّ محطة القطار، وسمعت زمجرة وصفيرًا طويلًا، ثم عواء مجروحًا خطف قلبى، فسرت نحو الأرصفة المتلاحقة، لأجد قطارًا يتأهب للرحيل. ركبت سريعًا، وعبرت المقاعد الخشبية حتى وصلت إلى مقعد خال، فجلست صامتًا، بينما راح هو يجرى في اتجاه لا أعرفه.

كنت مثقلًا بغم لا يطاق، وأنا أقاوم شعورًا بالكراهية راح ينهش روحى بلا رحمة، يريد أن يحتلنى ويتمكن منى. فعلى كل حال لم أكن أريد أن أكره أمى، فهذا كان يغضبنى من نفسى رغم ما تفعله بى. لكن لم أكن قادرًا على أن أحبها، وطالما جاهدت كى تبقى مشاعرى حيالها على الحياد. باردة كدفقات الهواء التي اندفعت بقوة من نوافذ القطار، مع قدوم الليل، وشدة السرعة.

بعد أن قطع القطار مسافة طويلة سألت رجلًا بدينًا كان يجلس مؤرقًا، عين على الطريق، والأخرى على وجهى:

ـ إلى أين يذهب هذا القطار؟

ضحك فبانت أسنانه السوداء المتآكلة، ورد على سؤالى بسؤال ساخر:

ـ ركبت قطارًا لا تعرف أين وجهته؟

وتطوع شاب يجلس في مقعد عن اليمين وقال:

ـ رايح «دمياط».

ونزلت إلى هذه المدينة الساحلية والليل قد رحل بعيدًا، وكنت وحيدًا وتائهًا وحائرًا، أكثر من وحدتى وحيرتى هنا في تلك الزنزانة البائسة. سألت عن «لوكاندة» أُلقى في يد صاحبها قسطًا وافرًا من النقود الشحيحة، التي تستقر في قعر جيبى، وألقى جسدى على سرير متداع حتى يأتى الصباح، و«الصباح رباح كما يقولون».

وكنت قريبًا من مقهى حين سمعت اثنين يتحدثان بلهجة صعيدية عن الرزق المفتوح في «رأس البر»، ووجدت نفسى أسألهما:

ـ أين «رأس البر»؟

فأشار أحدهما إلى شارع جانبى ينتهى عند موقف الباصات الذاهبة إلى هناك. هرعت إليه وأنا أُمَنِّى نفسى بأن أعثر هناك على صديقى «عبدالرحمن سليمان».

وصلت عند الثانية صباحًا، ورحت أجول على «الكازينوهات» المتراصة بالقرب من الشاطئ، وعشش البوص المسقوفة بجريد النخل، حتى نضح نور الفجر من طيات الظلام.

كنت أرفع وجهى نحو العشش والبيوت الخفيضة، لعلى أجد وجه «عبدالرحمن» يطل من شرفة أو نافذة. وكانت تجتاحنى رغبة أحيانًا في ألا أعثر عليه، فأنا لم يتبق معى سوى جنيه واحد، بعد وجبة فول وطعمية، وتذكرة القطار، وكوب عصير قصب، ويجب ألا يتحمل صديقى نفقات واحد مثلى، هارب من جحيم أمه.

لم أجد «عبدالرحمن» بالفعل حتى عصر اليوم التالى، ولم أر أي أثر لأحد من أهله، فطويت هذه الصفحة، وكان علىَّ أن أدبر حالى، فبحثت عن عمل، لأنى كنت أرغب في البقاء، لأبتعد عن وجه أمى كل شهور الصيف.

دخلت «كازينوهات» وسألت عن عمل، فقالوا لى:

ـ «لا يوجد»..

بعضهم كان يهشنى من طريقه، وبعضهم كان يتابعنى في صمت ثم يشير إلى الخارج، وبعضهم كان يعتذر، وأحد هؤلاء دلنى على «كازينو» يحتاج دومًا إلى عمال، وقال لى وهو يشير إليه:

ـ روح وربنا يكون في عونك.

مشيت إلى كهل قصير القامة وأنيق، يجلس على مكتب في المدخل، وينظر إلى العمال بطرف عينيه، سألته عما أريد، وأنصت إلىَّ، ثم سألنى:

ـ هل أنت طالب؟

ـ نعم.

ـ في أي مرحلة تعليمية؟

ـ أنهيت السنة الأولى من «كلية الاقتصاد والعلوم السياسية».

اتسعت حدقتاه، وقال:

ـ يعنى ستعمل معنا فترة الإجازة فقط.

هززت رأسى وأنا أدارى خيبتى، لكنه فاجأنى قائلًا:

ـ عمومًا أي شغل شريف يزيدك.

ثم سألنى:

ـ من أي بلد؟

ـ «القاهرة».

وسألنى أيضًا:

ـ هل عملت «جرسون» من قبل؟

شرحت له أننى عملت في مهن كثيرة لكن ليس من بينها هذه. هز رأسه، وقال:

ـ هل تعرف كم أجرك؟

ـ لا.

ـ ربع جنيه في اليوم، تحصل على عشرة قروش في نهاية الوردية، والبقية ندخرها لك حتى نهاية الموسم.

كان عرضًا مجحفًا، لكن لم يكن أمامى من سبيل سوى قبوله، وأرسلنى الرجل إلى ابن صاحب «الكازينو»، وهو شاب نحيف ذو عينين ضيقتين طافحتين بالمكر والكره، ووجه مثلثى أصفر، تشعر وأنت تحدثه بأنه سيقدم على طعنك في صدرك بذقنه المدبب. ظل يتطلع إلىَّ وكأنه يعاين بضاعة رديئة، وأحسست أنه اقتحم أعماقى، وعرف بعض ما أخفيه. سألنى بعد أن عاد ينظر إلىَّ بلا عناية:

ـ هل تعرف ماذا ستعمل؟

ـ «جرسون».

ـ شاطر.. شاطر.

قالها باستهانة، ثم رفع وجهه إلى الطاولات المرصوصة، وقال:

ـ ستقدم المأكولات والمشروبات للزبائن، وأى طبق أو كأس يكسر سيُخصم من أجرك، ولو شكا منك زبون لن تبقى هنا دقيقة واحدة.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية