x

عادل نعمان هذا الرجل.. كما عرفته عن قرب عادل نعمان الخميس 01-10-2020 00:58


كنت يوما على خلاف حاد وعنيف مع مدير أحد مصانع الراحل فريد خميس «خالد» وكان ناجحا ومبدعا، واستدعانا نحن الاثنين إلى لقائه، وجلسنا فى الصالون الملحق بمكتبه فى انتظاره نفكر معا فى الخروج من غضبه سالمين، وصل يصحبه جماعة من أصدقائه على رأسهم شخصية معروفة معاصرة، المفاجأة أنه عاتبنا عتاب الرفاق والصحاب أمام الجميع، ورفعنا أمامهم حين استدار ناحيتهم وأشهدهم علينا «هذان الزميلان قياداتى فى الشركة يتشاجران ويتخاصمان وسط الموظفين والعمال...» وعاتبنا برفق، وابتسم وانصرفوا وانصرفنا، ولم تكن هذه الرسالة الرقيقة موجهة لنا بالطبع، فى اليوم التالى حين استدعانى لمكتبه كان «حاجبه المرفوع» ينبئ عن التعنيف الذى أخفاه بالأمس، وكان حديثه حادا كخيوط النسيج الملفوفة بإحكام، عن خطة المبيعات وما تحقق منها والمقارن بينهما ومعدل النجاح أو الإخفاق، وكانت تلك هى رسالته «بدل ما تتخانق شوف شغلك».. وصلت ياريس..، يوما تكون أقرب الناس إليه، والتالى يفصلك عنه بمسافات وأبعاد، قادر كان هذا الرجل أن يزاحمه الناس جميعا محيطه الضيق إن أراد، وأن يبعد الجميع عن محيطه الواسع حتى وإن أبوا، الأذكياء فقط يعرفون ذلك وربما يخسره بعضهم.

عرفته «ضعيفا رقيقا» أمام الفقر والفقراء والكلمة الطيبة الأمينة، «نافرا» من النفاق والمنافقين، وكان يسارع إلى «قطعها» وردها إلى حلق قائلها «خلص» إذا كان من مدرسته ومؤسساته، وأحيانا تتسرب إليه من خارجها إذا اشتاق أو تمنى أو كان لديه متسع من الوقت، وهو يستحقها عن جدارة، فإن لم يجد هؤلاء لهم سوق فى حضرته ونجاحاته وعبقريته وذكائه فأين لبضاعتهم من تصريف؟ فإذا صدق وأقر ووافق لم يكن مخدوعا بل أمينا على رصيده، إلا أنها لا تسكره ولا تنسيه خريطته وخطوط سيره، الضعف عنده كان على قدر قوته لا يتسلل إليه أكثر مما يريد، ولا يقبله مهانا مسكينا من صاحبه، والمجاملة على قدر احتياجه وما يملأ نفسه انشراحا، وربما يقطعها إذا استكفى، الخروج عنده من هذه الدوائر كلها كان حين يريد ويقرر، ويرتدى فى اللحظة الواحدة كل الأقنعة التى تجعل الجميع قبض يديه وحوله، وقلوبهم معه أو عليه بين كفيه من قريب أو بعيد.

«الحدس» فائق الجودة، وعالى التركيز، إياك أن تدخل عليه وقد صنعت معروفا أو جميلا طلبا للرضا، سيواجهك «بحاجبه المرفوع» فتخرج مهزوما مدحورا، ولا تخش الدخول عليه وقد صنعت سوءا أو ضررا طلبا للصفح والعفو، سيواجهك بابتسامته فتخرج مسرورا مجبورا، الأول: لا يريد له أن يرتفع أكثر مما يجب، والثانى: لا يرغب فى سقوطه أكثر مما يحتمل، هو يعرف ماذا تريد حين تهم بالدخول عليه، مهما حاولت أن تخفيه أو تتستر عليه، يقرأه عنك، معك أو عليك، معينا وسندا، أو معرضا ومهملا، إذا حدثه هذا «الحدس» بصدقه المعهود مهما كلفه وأجهده.

«كرم العمد» حين يمر العمدة، كبير القوم بين الصفوف ويديه خلف ظهره، يتأمل ويرقب ماذا يأكل الناس ويشربون فى المناسبات العامة، ولا يجلس ليأكل حتى يطمئن على الصغير قبل الكبير والضعيف قبل القوى، وربما نهر وزجر المسؤول إن رأى نقصا أو إهمالا لعامل أو موظف خصوصا لو كان بسيطا، فيزيل الرهبة فى النفوس ويفتح القلوب الموصدة بالخوف للشكوى فيعرف ما حجبه الكبار عن الصغار حتى لو كانت مكتومة ٠٠ اعلم إنك بصحبة «كريم»، وكان من عادته حين يغادر مكتبه إلى الغداء أن يأخذ بين يديه كل حضوره، يشاركونه الطعام، العمدة المضيف هو صاحب المكان والدار، وهو الكبير، لكنه لا يأخذ نصيبا أو اهتماما أكبر من أحدهم، وكان حريصا ورقيبا على هذا، وربما يفتح موضوعا للنقاش مع الأصغر شأنا، وكانت رسالته للجميع من هنا تبدأ الخطوة الأولى، عند ٠٠ «تهتهة ».. هؤلاء الصغار، كان كرمه ما زال على فطرته الأولى، حتى لو سكن القصور وارتاد المطاعم الفاخرة فى كل الدنيا. أيهما يسبق الآخر فى براعة النسج وبرم الخيوط ودقتها ومتانتها وتناسقها وتناغمها وروعة ألوانها وفواصلها الدقيقة المحددة الرقيقة الناعمة المتجددة، هو أم صنعته وسجادته التى أتقن صناعتها، أيهما بناء الآخر، وأيهما صنع الآخر؟ كلاهما صناعة اليدين معا، كل منهما يستمد عبقرية الزمان والمكان والجمال من الآخر، حين تعرض عليه عينة من سجادة جديدة، كان يضع يده سريعا على العيب الذى مر على الجميع دون التفات أو انتباه، كان الرجل يصلح ما فى نفسه فقد قرأها فور رؤياها، وكان يمر على الجمال فيها دون تعليق فهو عنده ويخبره ويلمسه صباح مساء.

فريد خميس رأته الدنيا كلها كما رغب وسعى، ورأيته أنا كما أرغب وأحب وأدقق، خيوط ناعمة حادة نافذة رقيقة، ضعف يتحصن بقوة، وقوة يستتر خلفها كل من حوله حتى لحظات ضعفه، منسوج من خيوط زاهية لا تتداخل ولا تتلامس بعضها مع بعض، يعيد فكها ونسجها بمهارة فائقة، شخصيات متنوعة، مشاعر متباينة صور تتعامل مع الواقع والناس، فى كل زاوية تراه يطالعك وحدك، قل عنها موناليزا العصر، وحين انسحبت من أعماله ظل الرجل كما هو لم تلمسه يد الكره أو البغض حتى حين حدثتنى نفسى عنها وراودتنى عليه وزينتها لى قليلا، لم يهتز أو ينقص رصيده عندى، عجيب أمر هذا الرجل، لم يكرهه أحد، حتى من خرج من رحابه بإرادته، رحمة الله عليك يا أذكى من عرفت، وأطيب من رأيت، وعليك وإليك السلام.

قد يعجبك أيضا‎

قد يعجبك أيضا

النشرة البريدية