حماية الأديان وتحصينها أصبحت ضرورة إنسانية حفاظًا عليها من استغلال المستغلين وانتفاع المنتفعين، وحفظًا للناس من سطوتها ونفوذها أحيانًا وإعاقتها سبل التطور والارتقاء بفعل فاعل أحيانًا أخرى، وصونًا لها من التشكيك والإنكار، وهو أمر غالب عليها. على أن المُلاحَظ أن كل مَن هبَّ ودبَّ وجد في بعض حجرات هذا البيت وبين جدرانه ضالّته ومنتهاه وبضاعته التي يرجوها ومصالحه التي يأملها، فما دخل أحد لها إلا وعاد مجبور الخاطر هانئ البال والمال، وما وقف على هذه الأبواب طامع إلا وكان رجاؤه ومبتغاه تحت الطلب، لا رد لسائل ولا حرج فيما أراد، غزو وقتل وسَبْى ونهب أموال الغير.. «نعم مستجاب وعلى المكشوف.. عندهم» أسر الصغار وبيع الكبار والتسرِّى بالجميلات الفاتنات واختبار مواطن العفة قبل الركوب.. «جائز ومستحب عند غالبيتهم».. استحلال مال الغير لاختلافه في الدين لإضعافه وإذلاله وكسر أنفه أينما حلَّ أو ارتحل.. «حلال في حلال»، هذه أبواب مفتوحة ومتاحة على مصراعيها للمنتفعين والمستفيدين والمرتزقة وأصحاب الحرف من الضالِّين، يغرفون ما شاء لهم الهوى، من الأصول أو الفروع، من الكتاب أو من المكتوب، من الناسخ أو من المنسوخ، دون تحصين ودون حاجز أو حاجب أو مانع أو حائل، كل هذا ليس من أديان الله وليس من عنده، بل من عند أنفسهم، ولابد أن نعترف ونقر ونعتذر ونندم عن صناعة وبضاعة الأجداد أو بعضهم.
ولأن نعتذر عن هذا الاختراق الذي أصاب ديننا فيما سبق فهو واجب يفرضه الواقع، إلا أن تحصين هذا الدين الإلهى في المستقبل أوجب مئات المرات، وما كان من اختراق بسوء نية أو حسنها قد مر وانصرم بكل مرارته، إلا أن هذا المر وهذا العلقم لم يعد «مبلوعًا» أو «مهضومًا»، بل لم يعد مقبولًا مروره على العقل أو القلب أو حتى حين يغيب أو يتغيب الضمير.
والمواجهة أصبحت قائمة، والمصادمة قاب قوسين أو أدنى، وما كان يصنع في الخفاء وخلف الأبواب سيواجهه في العلن وفى العين، وليست صور التآمر «كما تبدو» الآن على الإسلام وكما «يزعم المسلمون» إلا دفاعًا عن سهام المسلمين التي تنطلق في كل اتجاه، فتصيب القريب والبعيد، وما كان من دفع المسلمين دفعًا إلى حروبهم الداخلية إلا عزلًا وحماية ووقاية لغيرهم، واقتتالهم بعضهم بعضًا انصرافًا عن قتالهم وانشغالًا عنهم، وما كان ومازال من قذائف القنوات الفضائية للطعن والتشكيك في الدين وعلى شبكات التواصل ووسائل النشر المختلفة إلا ردًا على صور الازدراء والتحقير التي رفعناها عليهم من قرون، وشكّكنا الناس في معتقداتهم وأديانهم، وهى نظرية دفاعية مقبولة ومعتمدة، درء الأذى بالأذى، وإطفاء النار بالنار، أو قل: «ادفع السيئة بأسوأ منها»، وكأنه يجب أن نترك لهم دينهم الذي ارتضوه ولنا ديننا الذي ارتضيناه، فما كسبنا ولكن خسرنا.
كيف نحصن ديننا من الدخلاء والمنتفعين من مشايخ المال والثروات؟ والمستغلين من الحكام ورجال الثراء؟ ومن ضعاف النفوس وأقويائها ومن الأصحاء والمرضى، ومن الحفاة العراة والمتطاولين في البنيان؟ ولا يخرج ولا يدخل منه أحد إلا بالحق، ولا يترك لنا على بابه مثلبة أو عيبًا أو عارًا أو مظلمة، ولا يتركنا حَيَارَى على الأبواب على ما في أيديهم أو في جيوبهم أو ما في جعبة أبى هريرة، أو ما جاء على ألسن الوضّاعين والمحدثين والحكائين والحواة والهواة، ونراه سلامًا ومحبة واطمئنانًا، ويراه غيرنا كذلك، يأمن العيش في ظلاله كما نأمن، ويسلم في رحابه كما نسلم، وينام مطمئنًا هو وأولاده ويعبدربه كما نعبد، سواء داخل بيته أو خارجه كما نمارس هنا وهناك، بل إذا ابتعد عنه عاد إلى رحابه يلتمس الأمن والراحة وهو على دينه باقٍ لا يخشى ولا يخاف، وهذا ما يجب أن يكون من عند الله ليس غيره. وهذه ليست مهمة رجال الدين أو الحكم، فقد تآمر النفران من اليوم الأول على تبادل المصالح، لأحدهما جيوب القوم، وللآخر عقولهم، وفتحوا في الجدار ثغرة للاختراق مازالت قائمة منذ الأوائل الأُوَل وحتى يومنا هذا، فاختلط الحق بالباطل وأصبحا في واحد، وفسر المشايخ آيات الله على هوى الخلفاء والحكام، فأصبح ثلاثة أرباع الدين من صنع بشر، حتى أضحى «التحصين» أمرًا مستحيلًا، فإما أن تقف على الأبواب تقبل ما يجود به هؤلاء من حقائق أو أساطير، أو دين الحق أو الأباطيل، أو تنصرف عنهم تمامًا تخلع رداءهم وربقة الدين من العنق، إلا أن الضرورة تبيح لنا تسلق الأسوار لتحرير الدين من هذا المحتل، وإطلاق سراحه، يفكر ويتدبر وينفض عن كاهله هذا التراث وهذا التراب حتى يعود إلى ربعه الأصلى ومربعه الأصيل، كيف؟ لنا بقية.